Monday, October 26, 2009

المواقع الإلكترونية السورية مشروعات تحت "عصا" الحكومة لغياب قانون يحميها

الإعلام الخاص في سوريا..جملةٌ حلم بها الكثير من الصحفيين السوريين، ورددوها حتى أصبحت أحد أهم مشروعاتهم وشعاراتهم، بل أن هذه الجملة دفعت ببعض الصحفيين الذين يعملون بالخارج إلى ترك عملهم ليعودوا إلى الوطن، متأملين بوضع حجر الأساس لحلمهم "الصحفي" على أرض الواقع.





لكن حلم الصحفيين والإعلاميين السوريين و خاصة لصعوبة الحصول على ترخيص لمطبوعة سياسية خاصة، ليتحول الإعلام الخاص إلى "اجتماعي، ثقافي، اقتصادي، منوع..إعلاني"، الذي لم يسلم بدوره، خاصة عندما حاول الخروج عن ذلك قليلاً كصحيفتي "الدومري" و"المبكي" اللتان تعرضتا للإغلاق وسحب الترخيص، وحجب أعداد من عدة صحف ومجلات أخرى، مما دفع بالكثير إلى اللجوء لشبكة الانترنت، ربما قاصدين الهروب من قانون المطبوعات وناشدين الوصول الأكبر والأوسع إلى الجمهور، ليجعلنا ذلك نشهد ظهور عددٍ من المواقع الالكترونية الإخبارية، التي أصبح بعضها أحد أهم المواقع العربية، ومصدراً مهماً للأخبار عند القراء داخل وخارج سوريا.


عشرات بل ربما مئات من "التجارب الالكترونية الإعلامية"، التي كانت "سوريا أو شام أو دمشق" ضمن عناوينها، لم يستطع بعضها الصمود والاستمرار لأسباب مالية أو أمنية، وبعضها أخذ بالتطور والتوسع لتأخذ عنه أشهر المحطات العربية والعالمية، وليؤمن فرص عمل للصحفيين الجدد، الذين لم تعد تستطيع صحفنا الرسمية الثلاث وتفرعاتها استيعابهم.



مخالفات عند البعض..وحرية عند البعض الآخر!!


إلا أن بعض المتابعين للشأن الإعلامي اعتبروا أن تلك المواقع مخالفة للقانون بحكم غياب ما يسمى "بالترخيص" أو "الموافقات" المختلفة التي اعتدنا عليها، والبعض الآخر اعتبر ان تلك المواقع ستبقى تحت عصا الحكومة بحكم غياب الصيغة التي تنظم عملها، إذ أن تلك المواقع لم تسلم من أن تطالها يد الحكومة بكافة أجهزتها، حيث تستطيع الدولة حجب أي موقع، كما تهدم أي بلدية بناء مخالفاً، مثل ما حدث مع موقع "شام برس" وعودته، وحجب موقع "سيريا نيوز" وعودته،وغياب موقع "مرآة سورية" و عدم عودته إلخ....


من جهتهم أصحاب المواقع الالكترونية رؤوا غير ذلك، فعملهم "هو تعبيرٌ عن الحريات التي أتاحتها العولمة للناس عدا عن أن وجود هذه المواقع هو جزء من التطور التقني العالمي الذي فرضه عصرنا"، حسب ما قالت مديرة تحرير موقع "الجمل" الالكتروني سعاد جروس، ورأت أن المواقع بما تحتويه هي من حق الناس وأنها لا تعتقد بأن المواقع الالكترونية على شبكة الانترنيت هي من المخالفات، وأن عملية حجب بعض المواقع هو عبارة عن موقف سياسي تعبر عنه الحكومة، لافتتاً إلى أن هذا الأمر خاطىء لأنه يفرض وصاية على عقول الناس.


فيما رأى المهندس نديم الجابي مدير موقع "الكرة السورية" الالكتروني وهو موقع من ضمن شبكة مواقع "سيريا نوبلز" أن عدم وجود قانون ينظم عمل النشر الالكتروني، لا يعني أن هذه المواقع مخالفة أو غير شرعية، وأن ما ساعد على انتشار هذه المواقع هو سهولة ويسر تكلفة نشر المعلومة، بالإضافة إلى رخص الاتصالات من خلال المنافسة لتقديم خدمة أسرع، إضافةً إلى أن العالم أصبح مكشوفا على بعضه و لا يمكن أن تستمر سوريا بالعمل وفق سياسة التعتيم.



عملها غير أخلاقي أو مهني


إلا أن أحد الإعلاميين المعروفين وصاحب موقع الكتروني، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، رأى أنه رغم الانتشار الذي تحققه هذه المواقع إلا أنها غير أخلاقية "مهنيا" لأنها تقوم على أخذ الأخبار من مواقع صحف ووكالات تدفع مالاً للحصول على الخبر لتعيد تحريره وتنشره مجاناً، وهذا خطأ مهني كبير، حتى أن بعض المواقع السورية الشهيرة لا تشير إلى المصدر الذي أخذ منه الخبر، وأضاف أن هناك بعض المواقع غير الجادة، والتي تلفق أخباراً غير صحيحة، أو تنشر أخبار تمس بمصلحة الدولة، تؤثر على الإعلام السوري عامةً والمواقع السورية، وعند تعرضها للمساءلة يروج للمسألة على أنها قمع لحرية الإعلام، مع أنهم المخطئين.



وصولها أسرع ووسيلة صلة مع الوطن


ورغم ما يقال عن المستوى المهني للمواقع الإلكترونية في سوريا و ما يمكن أن تطرحه من قضايا، و مدى جديتها، وكذلك عن الجهات "الداعمة"، والتي تشكل "حمايات" لتلك المواقع، وكذلك رغم غياب أي قانون ينظم عملها قد وصفها أحد الصحفيين بـ"المخالفات" الجميلة التي لا تحتاج أبدا إلى ورشة هدم، لا بل إلى دعم حقيقي من قبل القائمين على الإعلام، خاصة لأنها استطاعت أن تصل إلى السوريين في كل مكان من العالم حسب ريم الخضر مديرة موقع "داماس بوست"، التي اعتبرت أنها فتحت آفاقا جديدة للإعلام في سوريا، وتضيف الخضر أن المخالفات الحقيقية في هذه المواقع تتعلق بمحتوى المواد في تلك المواقع و الذي يؤخذ من الصحف ، وذلك لضعف الموارد المالية لها، إلا أن الدولة يجب أن ترى الوجه الإيجابي لهذه المواقع والذي يطغى على السلبي، حيث أنها أصبحت صلة الوصل بين السوري في الخارج ووطنه الأم، كما أنها طريقة أسرع لإيصال الأخبار و المشاكل للمعنيين، وتبقي المواطن على إطلاع مستمر طوال اليوم، لما تمتاز به من تحديث فوري، ووجود التفاعل المباشر مع القراء عن طريق التعليقات المباشرة.


وتختم الخضر كلامها بأن بعض المواقع أصبحت تتحول إلى تجارية عن طريق كميات الإعلان الكبيرة، مما أثر على سمعتها وسمعة باقي المواقع، مشيرةً إلى أنه لنجاح موقع إخباري عليه أن يكون معتدلاً فلا يجب أن يكون بوقاً لا للمعارضة ولا للحكومة، ولا للمعلنين والتجار، إلا أن الوضع المالي يتطلب ذلك أحياناً لضمان الاستمرار.


وجود المواقع الإلكترونية في سوريا أمر ما زال محور جدل بين الأوساط الإعلامية التي ترى ضرورة وجود صيغة تحكم عملها، وكذلك عمل العاملين فيها من الصحفيين والتقنيين، وبين أصحاب المواقع والجهات الرسمية أو غير الرسمية التي تصر على أنها غير "قانونية"، مما جعل مسألة حل هذا الخلاف يعتد على مجموعة حلول أخرى يفرضها الطرف الأقوى.




راما الجرمقاني

Friday, October 23, 2009

العنف الجنسي ضدَّ الأطفال.. أحدٌ ما يقتل الأمل

Mكل عام أقضي أسبوعاً من العطلة الصيفية مع زوجتي وطفلتي البالغة من العمر ست سنوات في اللاذقية، لكن إجازة هذا العام كانت مختلفة كلياً،فقد مارست على طفلتي دورالشرطي والرقيب،لم أسمح لها بالابتعاد لحظة عن ناظري ولم أسمح لها بالذهاب حتى إلى السوبر ماركت المجاور لشراء كيس شيبس بدون مرافقتي أنا أوزوجتي. في الماضي لم أكن حذراً هكذا ولم أكن قلقا ًلهذا الدرجة لكن ما حصل مؤخراً نبهني وحذرني وفتح عيني بأن طفلتي صغيرة وبريئة وبأن في الخارج وحوشاً لاترحم وبأن في مجتمعنا نماذج بشعة كثيرة.
مسكوتاً عنها لانسمع بها إلاعندما يتصيدها الإعلام وتتحول إلى قضية رأي عام ولا أريد لطفلتي أن تكون الضحية التالية التي تتصدر العناوين وتتحول إلى عبرة لمن يبدو أنه لا يعتبر». تلك هي حال «مازن» الموظف في وزارة الاقتصاد والتجارة منذ أن سمع عن قصة الطفلة خولة ذات الأربع سنوات التي كانت ضحية لأربعة شبان تناوبوا على اغتصابها ثم رموها في مكان مهجور ملقين التراب فوقها بعد ظنهم أنها فارقت الحياة. حادثة بشعة لم يمر من الزمن ما يكفي ليمحيها من أذهان السوريين...أثارت ضجة كبيرة وحركت الرأي العام وتصدرت وسائل الإعلام نظراً لتفاصيلها المؤلمة.
- العين تدمع
قصة خولة لم تكن الأولى من نوعها ولا الأخيرة، سبقتها حادثة الطفل ماهر ابن الست سنوات الذي قتل بعد الاعتداء عليه وألقيت جثته في مزرعة، وحادثة الطفلة رقية التي أقدم الجاني على استدراجها بإغوائها بكيس شيبس وقام باغتصابها ثم خنقها ودهس رأسها بقدميه، أما الضحية الأحدث، فهي الطفلة هبة التي وجدت مؤخراً في حالة مزرية بعد تعرضها لاعتداء جنسي في أحد الأحياء الشعبية في مدينة حلب. ما يميز تلك الحوادث عن الأعداد غير المعروفة من الجرائم المشابهة، هي أنها تسربت لوسائل الإعلام أو أن ذوي الضحايا فيها اختاروا أن يحولوا قصتهم إلى قضية رأي عام؛ علّ المأساة لا تتكرر، ولأن الدرس كان قاسياً والثمن في كل مرة كان غالياً، كان يؤمل من تلك الضجة أن تؤتي ثمارها وألا تكون مجرد «جعجعة بلا طحن» فلا يبقى من الحادثة سوى التشهير والألم والذكرى. وهنا يعود دكتور علم الاجتماع في جامعة دمشق مطاع بركات بالزمن إلى عام 1904 عندما تأسست أول جمعية لحماية الأطفال نتيجة اعتداء حصل على طفلة في ولاية أريزونا، يقول بركات «آنذاك لم يكن ثمة جهة تدافع عن الضحية، فلجأ ذووها إلى جمعية الرفق بالحيوان، ما أثار سخط المجتمع المحلي وحرك المحاكم والقضاء والجهات المعنية، فقرورا تأسيس أول جمعية لحماية الطفولة، وهكذا فإن أي حادثة من هذا النوع تشكل صدمة بالنسبة إلى المجتمع، لكن السؤال هو كيف تستثمر هذه الصدمة، البعض يتأثر وينتقد ويعبر عن أسفه واشمئزازه والبعض يرى الأمر مجرد طفرة لا يمكن تعميمها وهنا يأتي دور المختصين والجهات المعنية كي يدرسوا الحالة بكل جوانبها ويعرفوا مدى وجودها في المجتمع».

- معضلة الرقم
هنا تظهر مشكلة أخرى تتمثل في الأرقام، فالعنف الجنسي ضد الأطفال من القضايا المسكوت عنها أو التي لا تلقى اعترافا مجتمعيا بوجودها، وبالتالي البحث عن حلول لها وفي هذا السياق تؤكد كندا شماط الأستاذة في كلية الحقوق في جامعة دمشق والناشطة في مجال حقوق المرأة والطفل، عدم وجود أي إحصاءات رسمية في وزارة العدل أو المكتب المركزي للإحصاء حول هذا الموضوع، وحتى الجهود الفردية والشخصية هي غير كافية، لأنها لا تكون على المستوى المطلوب وغالباً ما تواجه صعوبات كبيرة تتمثل في ثقافة الخوف والتستر السائدة وعدم تعاون الجهات المعنية.ولعل أهم الدراسات التي يمكن الاستناد إليها هي دراسة الهيئة السورية لشؤون الأسرة التي نشرت تقريرها بنهاية العام 2008 حول سوء معاملة الطفل وفي أحد جوانبه العنف الجنسي، حيث بينت الدراسة أن 33 % من الأطفال الذين شملتهم العينة تعرضوا لعنف جنسي، وهذا يؤكد – بحسب شماط - أنه عندما تسعى جهة حكومية لكي تضع يدها على مشكلة ما، فهي قادرة على توصيفها وإظهارها على حقيقتها، بغض النظر عن كل الصعوبات والعقبات، مشيرة إلى أن موضوع الاستغلال الجنسي للأطفال شأنه شأن كل المواضيع الاجتماعية كجرائم الشرف ومشاكل المرأة مع قانون الأحوال الشخصية التي لم تكن قيد التداول، سابقاً لكن الحال تغيرت خلال السنوات القليلة الماضية وبدأ مؤخراً الاعتراف بوجود تلك المشكلات والعمل من خلال دراسات فردية واستبيانات لمعرفة حجمها والمرحلة التي وصلت إليها في مجتمعنا.وفيما يؤكد بركات وجود العديد من الدراسات، يشير إلى مشكلة أخرى تتمثل في عدم إشهار البيانات وعدم وجود جهات اختصاصية تتبنى الموضوع وإن كانت البداية الحقيقية بجهود فردية والمؤتمر الأول لرعاية الطفولة في حلب والذي مهد لمؤتمر آخر عقد بعده بثمانية أشهر.

- "فوق الموتة عصة قبر"
تؤكد الدراسات أن الصدمة التي يتعرض لها الطفل بعد الكشف عن حالة الاعتداء وطريقة استجوابه وفحصه تكون أشد من الصدمة الأولى عندما يقع الاعتداء نفسه، لذلك يجب أن يتم التعامل مع الطفل بطريقة علمية ومنهجية مدروسة. وفي هذا السياق يرى بسام القاضي مدير مرصد نساء سورية في حادثة خولة فرصة أليمة، لكن كان يجب استغلالها لإصلاح الأساس الخاطئ للتعامل مع قضية العنف الجنسي ضد الأطفال من خلال إحداث محاكم خاصة بالأطفال لها محاميها وقضاتها وشكلها وشروط لمن يسمح لهم بالدخول إليها، لا أن يوضع الطفل الضحية في نفس المكان مع المجرمين والقاتلين ويعامل معاملة الراشدين ويوافق بركات على أن النظام المتبع للتعامل مع هذه القضايا يعاني قصوراً شديداً فالنظام القضائي ليس لديه خبراء اجتماعيون ونفسيون، وليس هناك قاض متخصِّص في مواضيع الأسرة، كما هي الحال بالنسبة إلى قضاة العقوبات والجنايات والأحداث. كما يجب أن تتحمَّل كلُّ جهة مسؤولياتها، ابتداء من الأهل، من خلال توعيتهم وتعليمهم كيفية التعاطي مع أطفالهم والبدء في إدخال التربية الجنسية ضمن المواد الدراسية كافة، كل واحدة بحسب اختصاصها، إن كان في الدين أم العلوم أم التربية، وأن يتمَّ- مثلاً- تعليم الدراسات التي تتحدَّث عن عوامل الخطر التي تزيد من احتمال تعرُّض الأطفال لاعتداء جنسي، إلى جانب تفعيل دور مؤسسات المجتمع الأهلي التي نفتقد نشاطها.
- عشق الأطفال
نسبة قليلة إذاً من تلك الحوادث تصل إلى الإعلام، وما خفي كان أعظم، لذلك قد لا تكون الأولوية في البحث في تفاصيل الرقم على يمين الفاصلة، بل يجب البدء بالبحث في الإجراءات القانونية والتربوية والإعلامية التي يمكن أن تتخذ للحد من هذه الظاهرة أو على الأقل معالجتها بطريقة مجدية بعد وقوعها. بركات رأى أن القانون الذي يحكم هذا النوع من الجرائم صارم وقوي مقارنة بالقوانين الغربية، حتى إنه يشدد العقوبة عندما يكون الجاني من ذوي السلطة أو الرعاية بالنسبة للطفل، لذلك فإن القانون ليس المشكلة وتطبيقه وحده ليس الحل، سيما أن الفاعل في كثير من الأحيان يكون مريضاً بما يسمى «عشق الأطفال» وهو مرض مثبت علمياً والأمل في الشفاء منه منخفض جداً، لذلك فإن نسبة قليلة ممن يقدمون على هذا الجرم يفكرون بالقانون كرادع. أما النسبة الأكبر من الجناة، فلا يهمهم القانون على الإطلاق. وتختلف شماط مع بركات بأن القانون بصيغته الحالية كاف، ففي كل دول العالم تكون مثل هذه الحوادث مؤشراً للجهاز القانوني بأنه يفترض أن يتغير كما حدث في مصر مثلاُ، حيث اعتبر المشرع المصري جريمة الخطف والاغتصاب جريمة تستحق الإعدام ولفتت شماط إلى وجود ثغرة مهمة في قانون العقوبات تتمثل في التمييز بين أعمار الأطفال الذين تم الاعتداء عليهم. فإذا كانت الضحية تحت سن الـ 13 تكون عقوبة المعتدي أكبر، وهذا الكلام غير منطقي؛ فما دامت الضحية تحت سن الـ18 يجب ان تعامل الضحية معاملة الطفل وتكون عقوبة المعتدي الإعدام؛ فهو يترقب أول ضحية ويخطط عن سابق إصرار وترصد.

- إعلام بالألوان
الاستغلال الجنسي للأطفال ظاهرة خطرة نتَّفق جميعاً على بشاعتها وخطورتها، لكنها تبقى إحدى المحرَّمات الكثيرة التي يمنع على المجتمع- وأحياناً على الإعلام- التطرُّق إليها، وحتى عندما يتجرَّأ الإعلام على تناول مثل هذا الموضوع، تكون النتيجة أحد أمرين: خبر بسيط في صفحة الحوادث مع عنوان مثير يجذب أكبر عدد ممكن من القرَّاء، أو محاولة فعلية لرصد القضية بكلِّ جوانبها وأبعادها، لكنها تصطدم بعدة حواجز؛ منها عدم وجود دراسات وعدم وجود أرقام، وعدم تعاون الجهات المعنية، والأهم ثقافة الخوف والتستُّر.. وحول التغطية الإعلامية لظاهرة الاستغلال الجنسي للأطفال، يرى بسام القاضي، مدير مرصد نساء سورية، أنَّ مجرد اهتمام الإعلام بمثل هذه الحوادث وتسليط الضوء عليها وجرأته في الحديث عنها بصراحة ووضوح، تعدُّ خطوة إيجابية جديدة، لكن الجزء السلبي يكمن في أنَّ قضية من هذا النوع يفترض أن يكون التعامل معها أكثر وعياً، ومعالجتها يجب أن تكون على أساس أنها قضية مجتمعية، مصلحة الطفل فيها فوق كل شيء، وليس مجرد خبر على طريقة الصحافة الصفراء يتمُّ التركيز فيها على التفاصيل المثيرة وإهمال جوانب أخرى مهمة، لأنَّ هذا التعاطي يؤدِّي إلى ردة فعل سلبية تتمثَّل في الخوف المبالغ فيه من قبل الأهل. ذلك ان قصة خولة فضحت العديد من القصص المشابهة المستورة، ولا يجب ان ننتظر وقوع مثل هذه المأساة حتى يتحرك الإعلام ويوافق بركات على التزايد الملحوظ للتعاطي الإعلامي مع هذه القضايا، بدءاً منذ العام 2002، حتى إنَّ الأخبار التي تنشرها الصحف الرسمية حولها ازدادت، وهذا مؤشر جيد لأنه يرفع الوعي، لكن المطلوب هو وجود تخطيط للنشاط الإعلامي واستثماره على شكل حملات توعية حتى تساعد على تلقِّي الخبر وفهمه والاستفادة منه بالطريقة الصحيحة.
ميس محمد - جريدة بلدنا

http://www.orient-tv.net/index.php?page=program&id=92

حكاية سورية - ويكيبيديا.....

حكاية سورية
لعله من أهم البرامج ، فهو برنامج تجاوز تلقزيون المشرق فيه كثيرا من الخطوط التي كان يظن أنها خطوط حمراء رسمت منذ بداية الستينات، اذ تدور حلقات البرنامج حول الخصوصية السورية في مواضيع حياتية كالموضة والفن التشكيلي والصناعات والخمر والجنس والتبغ وغيرها، أما المواضيع الأهم فهي دخوله واستكشافه فسيفساء المجتمع السوري وتسليطه الضوء على الاثنيات العرقية والطوائف الدينية، بحيادية وبساطة مطلقه، نحو تعريف الآخر بمن يعيش معه أو يجاوره ويتشارك معه في الأفراح والأتراح والهموم الوطنية، في زمن تسود المنطقة كثيرا من النزاعات والتشكيك بولاء الآخر للوطن، وكأن بالقائمين عليه قد أخذو مقولة المفكر والكاتب لطفي السيد "من جهل شيئا عاداه" أو مقولة "الانسان عدو مايجهل"، فتم تسليط الأضواء لرفع الجهل وتكسير العداوة بين شركاء الوطن، فكشفوا عن تفاصيل متنوعة في عمومها وخصوصها لـ الأرمن والشركس والتركمان والأشوريين واليزيديين ولايزال البرنامج مستمرا.

المشرق»... حكاية سورية بامتياز

وسط 370 فضائية عربية تبّث عبر قمر الـ «nile sat»، سطع نجم قناة «المشرق» أو الـ «orient tv» الفضائية السورية، في الثاني من شهر فبراير الماضي، لتحقق حضوراً قوياً في الشارع السوري تحديداً والعربي عامةً. وفي سابقة أولى من نوعها دأبت فضائية «المشرق» على مواصلة البث منذ اليوم الأول على مدار الأربع وعشرين ساعة، ودون الحاجة الى المرور في مرحلة البث التجريبي. قناة «المشرق» لصاحبها محمد غسان عبود، القادم الى الاعلام من عالم ادارة الأعمال، والتي تبثّ من دبي، قدّمت صورة مغايرة للفضائيات السورية انطلاقاً من هويتها البصرية وتصاميمها الغرافيكية، وصولاً الى برامجها الشابة، التي طرحت صورة حضارية عن سورية، وحقّقت قفزة في عالم الاعلام السوري المرئي الخاص، موفّرة اطلالة جديدة على المشهد السوري. وعلى الرغم من الانطباع الذي تكوَّن لدى البعض أن المادة التي تقدمها القناة تتماهى مع عصر الوجبة الخفيفة، الا ان البعد الثقافي حاضر بقوة في برامجها. «اللوك الجديد» الذي أطلقه تلفزيون «المشرق» أثار نقاشاً واسعاً في الشارع العربي، وكان الاعتماد على الوجوه الشابة السورية والتي في معظمها الساحق تطل للمرة الأولى على الساحة الاعلامية، كفيل باضفاء روح متجددة على البرامج في محاولة للتخلص من التكلّس، والنبش في عمق حياة الناس، والتعبير عن نبض الجدل الثقافي في الشارع العربي عبر برامج للمشاهير والنساء والمثقفين والشباب. سياسة المشرق «المشرق» الليبرالية، فضائية تحب وتقدس فلسفة الحياة وتهدف الى نشرها، وتستهدف شرائح اجتماعية منوعة متعددة ثقافياً على المقاييس كافة اذ ان تلفزيون المشرق أطلق كاميراته واعلامييه في كل جغرافية الأراضي السورية، ودخل في زوايا المجتمع السوري بما فيها الزوايا الضيقة والخطرة والتي لطالما صنفّها المراقبون لمسيرة النظام والحكومات السورية المتعاقبة على أنها خطوط حمراء، فقدم وجها عن المجتمع والنظام والحكومات السورية غير الوجوه المنمّطة التي وضع فيها!. وبذلك تمكنت شاشة «المشرق» من اسقاط الكثير من المقولات أن الحكومات السورية تضيّق الخناق على الاعلام السوري الخاص، وظهرت صورة المواطن السوري بأطيافه كافة كصورة جميلة عكست واقعاً مغايراً لما كانت تقدمه القنوات الأخرى. ويمكن القول أن علاقة فضائية «المشرق» بالجمهورية العربية السورية أشبه بعلاقة قناة «العربية» مع المملكة العربية السعودية وشاشة «الجزيرة» مع قطر.تلفزيون المشرق لم يدخل في سرداب الحراك السياسي في سورية، لكنه أيضا لم يقدم نفسه كبوق لاسطوانات مشروخة تعتمد على لغة الخطابة والتوجيه، اذ انه لعب على هامش دقيق، منتقداً في بعض برامجه وأخباره الأداء الحكومي بمهنية تبتعد عن الضجيج وتبني المواقف المعلبة، مقدما صورة للحراك الحياتي الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بكل ما له وما عليه من ايجابيات وسلبيات. ولعل من أهم الخدمات التي قدمها مشروع تلفزيون المشرق أيضا، أنه بدأ يخلق جيلا من الشباب السوريين المهنيين العاملين في مجال الاعلام التلفزيوني، سواء في الجوانب الفنية والهندسية أو في الجوانب التحريرية والاعلامية والبرامجية. 20 برنامجاً ترضي الأذواق كافة بدأ تلفزيون المشرق دورته البرامجية الأولى بثلاث نشرات اخبارية، انطلاقاً من نشرة «هنا سورية» المدعّمة بتقارير اخبارية يومية تُعنى برصد ظواهر وأحداث اجتماعية بلغة بسيطة وكاميرا حاضرة في كل مكان، معتمدة على شباب تلتقط عيونهم الغرابة والجمال.. وبحسب تصريح لسهير الذهبي، المشرفة على التقارير الاخبارية في نشرة «هنا سورية» فانَّ اعتمادهم الأول يقوم على اندفاع الشباب وعلى صفاء عقولهم، ولا تقتصر التقارير على دمشق انما تمتدُّ لتشمل معظم المحافظات السورية مع 10 مراسلين يرصدون ما يحدث في بقية المدن السورية. الى ذلك ظهرت نشرة الساعة الرابعة من استوديوهات التلفزيون في القاهرة، وهذه ذات طابع اخباري دولي عربي، أما النشرة الثالثة فيتمّ بثّها من استوديوهات التلفزيون من مؤسسة لايف بوينت للانتاج التلفزيوني بدبي والتي تعود ملكيتها لمالك التلفزيون نفسه، وهذه النشرة أيضا ذات محتوى دولي عربي. برامج خارج التأطير مع تغليب البرامج الشبابية الخارجة من اطار الاستديوهات، تبدو القناة مُصرَّة على اظهار مجتمع سوري بطريقة أقرب الى رصد الواقع. وتحت هذا العنوان اختارت القناة مجموعة من البرامج المسجلة خارج الاستوديو، والتي استخدمت فيها مهارات عدة كالديكودراما واللعب على العوالم اللونية وغيرها. وسنأتي على ذكرها في الأسطر التالية: حكاية سورية بعيداً عن السياسة يقدّم تلفزيون «المشرق» برنامج «حكاية سورية» الذي شهد تجاوزات للكثير من الخطوط الحمراء المرسومة منذ بداية الستينات، اذ تدور حلقات البرنامج حول الخصوصية السورية في مواضيع حياتية كالموضة والفن التشكيلي والصناعات والخمر والجنس والتبغ وغيرها من الموضوعات، وأهم انجازاته هو دخوله واستكشافه لفسيفساء المجتمع السوري، وتسليطه الضوء على الاثنيات العرقية والطوائف الدينية (الأرمن، الشركس، التركمان، الأشوريين، اليزيديين...)، بحيادية وبساطة مطلقة، ما أسهم بشكل فعّال في رفع الجهل وتكسير العداوة بين شركاء الوطن. «حكاية سورية» برنامج لافت من اعداد راما جرمقاني واخراج آمن العرند. •AM STORY أو «حكايا الليل» برنامج يدور عن خصوصية المهن الليلية لماريا شحادة ويتناول جوانب خفية تتعلق بهذه المهن كالراقص وحفظ الأمن والاسعاف والمراقبة الجمركية والتنظيفات وغيرها من المهن... • «نقطة من أول السطر» برنامج يسلّط الضوء على حدث ما، شكَّل حداً فاصلاً في حياة أحد الأشخاص وأدى الى قلب موازين حياته رأساً على عقب. • «الهوا شمالي» برنامج يظهر المنطقة الشمالية في سورية وطريقة حياة الناس فيها خصوصا أنها عاشت عقوداً عدة بعيداً عن الأضواء. • «جيم اوفر» gym over وتعتبر كل حلقة تلفزيونية من هذا البرنامج عبارة عن فيلم توثيقي يعيد الى الذاكرة نجوم الرياضة السورية الذين رفعوا اسم بلدهم في جميع الميادين الرياضية وغافلهم النسيان لكن انجازاتهم ما تزال حاضرة. • «أوتوغراف» هو البرنامج الوحيد الذي خرج فيه القائمون على تلفزيون «المشرق» من الحدود السورية الى الفضاء العربي، وهو عبارة عن استعراض سيرة شخصية تركت أثرا في المجتمع العربي، ليضيء على بواطن هذه الشخصيات. • «حياة الآخرين» برنامج مسابقات للينا العبد يعتمد على الطرفة في فكرة تبادل الأدوار ووضع المتسابقين في أماكن غير مألوفة لتتولد المفارقات والمرح واللعب. برامج سياحية وتجدر الاشارة الى أن معظم برامج تلفزيون «المشرق» تعتبر من بعيد أو قريب حالة اكتشاف كما للمجتمع السوري كذلك للجغرافية السورية وبالتالي بطريقة أو بأخرى هي برامج تكشف عن كنوز السياحة في سورية، لكن البرامج الثلاثة التالية هي برامج اكتشاف سياحي بحت، وهي: • «مقامات الشام» هذا البرنامج ما هو الا رصد توثيقي وتحليلي اجتماعي وسياحي وتاريخي لعظماء العالم الاسلامي ممن دفنوا في أرض سورية الواسعة، فهو برنامج يكشف أن في سورية امكانية لاستثمار السياحة الدينية لديها. • «DISCOVER SYRIA / اكتشف سورية» برنامج لرنا الصوا يوفّر اكتشافاً جغرافياً سياحياً للطبيعة المتنوعة في سورية من الجبال المكسوة بالثلوج، الى الصحراء والوديان والأنهار... شبان وفتيات على شكل مجموعات يعيدون استكشاف سورية بمغاورها، سيراً على الأقدام وتوثيقها بشكل موضوعي ودون ورتوش. • «نايت لايف» برنامج لعبدو مدخنة، يصور حياة الليل والسهرات الصاخبة، لكنّه يهدف الى تقديم صورة «سياحية» للبلد، نائياً عن هموم الواقع الحقيقية. البرنامج يعتبر تصويرا حيا لأجواء السهر والاحتفال في سورية. وتعرض «المشرق» فيلمين أجنبيين، يومي الثلاثاء والخميس، وتعاود اكتشاف الأرشيف السينمائي السوري، فتقدّم خمسة أفلام سوريّة أسبوعياً، لحفظ الذاكرة. وللدراما حصة طبعاً، لكنّ «المشرق» لا تقترح دراما منافسة، بل تعرض مسلسلات تعود الى سنتين. Ladies firstومن برامج المحطة الخاصة، «النساء أولاً» Ladies first الذي تقدّمه الممثلة ديمة بياعة، والكاتبة سمر يزبك، ومصممة الأزياء هلا جرجورة، ومهندس الديكور لؤي مردم بك.البرنامج الذي ينتمي الى الـ «توك شو» يتناول مواضيع مختلفة، لكنّ طابع التسلية يغلب عليه. وهو برنامج يهتم بقضايا المرأة السورية، ربات البيوت والصالونات تحديدا. • أما «أضواء المدينة» فهو من اعداد وتقديم الكاتبة ديمة ونوس، يحاور في كل حلقة شخصية ثقافية. أضواء المدينة برنامج يركز على قضايا الحراك الثقافي في الساحة الثقافية السورية. • «ان أوت» برنامج يهتم في تقديم النشاطات الفنية السورية (غناء، مسرح، سينما، دراما، معارض نحت وفن تشكيلي وأزياء، ومهرجانات... الخ). • «ع هوانا» للشباب السوري وتطلعاتهم واهتماماتهم وقضاياهم كان لهم هذا البرنامج. • «على حد قولهم» هو برنامج يسلط الضوء على القضايا السياسية العربية فيما وراء الخبر السياسي اليومي. • «اقتصاد المشرق» برنامج اقتصادي له شكل مميز فهو كناية عن مرآة عكست واقع الاقتصاد السوري الذي تعتبر فيه اقتصاديات الظل هي الاقتصاديات ذات الطيف الأوسع، فاهتم البرنامج بهذا الاقتصاد «التراثي» المتخلف العصي على الاصلاح والتطور حتى اليوم، والبعيد عن العصرنة، وانما اقتصاد «العصرونية»، كما قُدِّمت فيه جوانب صناعية تجارية مؤسساتية خاصة وحكومية كانت خفية وغير معروفة، ولم ينسَ البرنامج أن يقدم بورصة للمنتجات والمستوردات السورية. لم تعتمد هذه البرامج على التصوير الممل داخل الاستديو فقط وانما كل هذه البرامج اعتمد فيها التقارير الخارجية لكي تبعد المشاهد عن الملل. • «سوبر برس» يعتبر من البرامج الجديدة كليا على الفضائيات العربية. هذا البرنامج يقيم ويبحث في تغطية وسائل الاعلام للقضايا والمشاكل التي تطرأ على المجتمع السوري، ومن خلالها يتطرق الى الأداء الحكومي بايجابياته وسلبياته. وجوه تميزت قناة «المشرق» الفضائية بظهور وجوه اعلامية سورية أثبتت كفاءتها المهنية بسرعة ملحوظة، والمثير للانتباه أنه في غضون الأشهر الأربعة المنصرمة التي مضت على انطلاقة القناة تمكنّت وجوه الـ «أورينت تي في» من أن تحجز لها مكانة كبرى في قلوب المشاهدين العرب، اذ رغم قصر الفترة الزمنية التي عرف الناس خلالها مذيعو «المشرق»، فقد باتوا نجوماً لامعين في الفضاء الاعلامي، يشار اليهم بالبنان، وهذا ان دلّ على شيء فانما يدلّ على تميز الأداء الاعلامي لتلك الأسماء وتألق البرامج التي يطلّون من خلالها

بلغة عربية ركيكة.. سيدة روسية تنصح مواطنا سوريا برشوة شرطي المرور!!!

عندما كان أحد سائقي السرافيس الذي يعمل على خط جرمانا باب توما عائداً من رحلته للمرة الألف في ذلك اليوم و بالتحديد عند تقاطع مخيم جرمانا قام هذا السائق" الهلكان " بمخالفة بسيطة كي يصل أسرع من زميله الذي أمامه مما لفت انتباه شرطي المرور وهم بمخالفة السائق!!..
إلى هنا و القصة تبدو طبيعية جداً بل تدل على حرص الشرطي في تطبيقه للنظام و على تجاوزات السائقين الذين يحملون جزءاً كبيراً من مسؤولية تخلف المرور عندنا . لكن المضحك المبكي في الموضوع أن أحد ركاب ذلك السيرفيس كان سيدة روسية تتكلم عربية ركيكة و من خوفها الشديد أن تتأخر عن أعمالها صرخت بصوت مرتفع "أتي خامسا و إيشرين بيمشي إيلهال !!" أي" عطي 25 بيمشي الحال"..
راما الجرمقاني

جولة يوم واحد في دمشق تؤكد أننا " نستمتع" بالمخالفة!... أي مخالفة!!!!

كثيراً ما نستعمل كلمة "مخالفة" للتعبير عن استيائنا من موقف حصل معنا وكنا المظلومين فيه، جاعلين من هذه الكلمات دليل إدانة نثبت به التهمة على الطرف الآخر، دون التفكير بأننا نرتكب "المخالفات" يومياً، بل أننا اعتدنا بعضها لتحل مكان النظام الأصلي، وتصبح بمثابة قاعدةٍ جديدة فصلناها حسب رغبتنا، وبما يتلاءم مع راحتنا، بغض النظر عن نوع هذه "المخالفات" وحجمها وطريقة ممارستنا لها و حجم الضرر الناتج عنها، و التي تبدأ من عدم التقيد باللباس المدرسي النظامي، انتهاءً إلى أكبر مخالفة لمعمل أو منشأة صناعية قد تسبب أضراراً بالغة، مروراً بالمخالفات المرورية، وعدم التقيد بالمواعيد و نظام العمل...إلخ. وقد نستغرب من أنفسنا أحياناً، أننا نرتكب "المخالفات" ونحن نعيها تماماً، ونعترف بها غالباً، ونقوم بها مع "سابق إصرار و تصميم" في معظم الأوقات، محاولين إبعاد فكرة الضرر و الظلم الذي قد نلحقه بالآخرين من وراء هذه "التجاوزات" "التافهة" في نظر بعضنا، محملين مسؤولية أخطائنا للرقابة النائمة عنا، بمختلف أشكالها، ونجرب "تسكين" ضميرنا بعبارة "يروح يشتكي" و "القانون يأخذ له حقه". أشكالُ كثيرة لـ"المخالفات" اليومية حاولنا رصد بعضها، لعلنا نجد سبباً مقنعاً يفسر لنا عدم "حبنا" للنظام، وسعينا الدائم من أجل الهروب منه أو الالتفاف عليه كلما استطعنا ذلك، و مع ذلك حاولنا السير ليوم واحد في دمشق و مثل كل سكان المدينة لنكتشف عدد من القصص "المخالفة" للقانون حتى بدات كأنها ..طبيعية في حياتنا. نخالف لنكسب الوقت طالما لا أحد يمنعنا لم نجد مكاناً أفضل من جسر المشاة "المهجور" في "الزاهرة" كمثالٍ حي على المخالفات التي يرتكبها الناس أثناء عبورهم الطريق لنبدأ منه قصتنا مع التجاوزات. وعلى بعد مترين من الجسر، لا أكثر، كان "رفيق " وصديقه يقفان على الرصيف وسط الجو البارد استعداداً لعبور الشارع، تاركين جسر المشاة بمفرده، ينتظر أحد المارة ليساعده في أداء مهمته، التي أوجدته قواعد نظام السير من أجلها، لم نستطع التحدث مع صديقه لأنه تمكن من العبور قبل قدوم سيارةٍ مسرعة منعت "رفيق" من اللحاق بالشاب، وأتاحت لنا فرصة سؤاله عن السبب الذي منعه من صعود جسر المشاة و عبور الشارع عن طريقه حسب النظام. أخبرنا "رفيق" ودون تفكير بعد سؤالنا له مباشرةً أنه طالما ليس هناك أحد يخالفه أو يراقبه فلماذا عليه صعود الجسر و إضاعة الوقت؟ وأضاف أن الطريق ليس خطراً جداً في هذه المنطقة و السيارات عادةً لا تكون سرعتها عالية مما يتيح لهم، في أغلب الأوقات، مروراً سليماً، كما أن الرصيف الذي يوجد في منتصف الطريق غير مرتفع و ليس مزروعاً بأكمله لذلك يمكن المرور من فوقه بسهولة، ويعلق قائلاً قبل تركه لنا ليعبر الشارع " لو أن الحكومة وفرت تكاليف هذا الجسر كان أفضل، فوجوده و عدم وجوده واحد، وأنا لم أر أحداً قام بصعوده إلا فيما ندر منذ بنائه". حالة جسر المشاة في "الزاهرة" لا تختلف كثيراً عن نفق المشاة أمام كلية الآداب في اتوستراد المزة، حيث أن ازدحام الطلاب في النفق أمام المكتبات الموجودة فيه، و الذي يصل عددهم إلى المئات، يدفع عددا من الطلاب إلى عبور الاتوستراد قفزاً من فوق الشبك الفاصل بين السيارات الذاهبة و القادمة، حسب ما أخبرتنا "لينا" التي أكدت أنها قامت بعبور الاتوستراد بهذه الطريقة أكثر من مرة حتى تلحق بدوامها في الجامعة بعد أن علقت لأكثر من نصف ساعة في النفق، وأنها أحياناً تضطر إلى ركوب "تاكسي" ينقلها إلى الطرف الآخر من الاتوستراد، وأضافت "لينا" أنها تعلم بأنها تقوم بارتكاب مخالفة و أن الشرطي أمام الكلية قد وبخها مرة لذلك، ولكنها تضطر لمخالفة النظام بسبب عدم وجود نظام في النفق فالحل يكون بفرض نظام داخل النفق ليتم التقيد بالنظام خارجاً. الرشوة طريقة للتهرب من المساءلة بعد أن تركنا "لينا" تابعنا سيراً على اتوستراد المزة ليلفت نظرنا مخالفةُ من نوعٍ آخر، أثناء قيامنا بعبور الشارع بعد إغلاق الإشارة، حيث وقفت معظم السيارات في الصف الأمامي لـ"الرتل" الطويل أمام الإشارة مما منع سائقي تلك السيارات من رؤية تحول لون الإشارة إيذاناً بالتقدم و العبور، وفتح ذلك سيمفونيةً من أصوات الزمامير تطلب من سائقي الصف الأمامي التحرك، كونهم توقفوا بعد الإشارة، و على ممر المشاة تماما، الأمر الذي تغاضى عنه شرطي المرور، و الذي تكرر على أغلب الإشارات على طول الاتوستراد، و الذي يتكرر يومياً آلاف المرات أيضا، حسب ما أخبرنا أبو وليد سائق التاكسي الذي صعدنا معه، إذ رأى أن سبب هذه الظاهرة يعود إلى السرعة العالية،خاصةً على الاتوستراد، و التي قد تمنع بعض السائقين من التوقف في المكان المخصص، وأضاف الرجل بشيءٍ من التهكم أن كلمة "نظام" أصبحت كلمة قديمة، ولم يعد أحد يستخدمها، طالما هناك "رشوة و إكراميات" تدفع لشرطة المرور، فلن يخالف السائق بحياته، وتساءل أبو وليد عن السبب الذي يدفع الناس دائماً لرؤية السائق المخالف فقط، دون الأخذ بعين الاعتبار المواطن الذي يسير في الشارع، و أنه هل حصل و سٌئل هذا المواطن عن السبب الذي يمنعه من العبور من المكان أو المسار المخصص للمشاة. بعد أن وصلنا إلى ساحة الأمويين طلب السائق مبلغ /75/ ل.س أجرة "مشوارنا"، الذي لا يمكن أن يتجاوز الـ/50/ ل.س، و عند سؤالنا عن العداد أجاب أنه لا يملك عدادا، و بعد جدلٍ طويل وتهديدٍ من قبلنا بأننا سنبلغ عنه لأنه "مخالف"، أخذ الرجل /50/ ل.س، و هو على يقين بأننا لن نبلغ عنه، و إننا لم نقم بأخذ رقم سيارته ، مما قد يدفعه لارتكاب المخالفة مرة ثانية و ثالثة، طالما ليس من أحد يرده، أو يوقفه عند حده، خاصةً و أنه قد اعتاد الالتفاف على القانون حسب ما أخبرنا. قررنا بعد الجدل الطويل مع سائق التاكسي عدم صعود تاكسي ثانيةً وأن نستقل " السيرفيس" المحدد التعرفة، سواء كان يملك عداداً أم لم يملك. القيادة على الرصيف و رمي الأوساخ من الشباك أحدثها! تابعنا سيراً باتجاه كلية التجارة لنجد الأرصفة على طول الطريق، ابتداءً من الرصيف أمام المعهد الهندسي وصولاً إلى مفرق التجارة، قد تحولت إلى "باركينج" مجاني لسيارات الطلاب و سكان المنطقة، ليسجل هذا المنظر مخالفةً جديدة في سجل المخالفات التي رصدناها في ساعاتٍ قليلة من يومٍ عادي، ولكن لم تقف المخالفات عند هذا الحد، إذ قام " السيرفيس" الذي ركبناه بالصعود على الرصيف و السير عليه و صولاً إلى "كراجات داريا و جرمانا" في منطقة البرامكة، تداركاً للازدحام الشديد في تلك المنطقة، الأمر الذي قد يعتقده البعض نوعاً من المبالغة، إلا أن هذا يحصل في كثير من الأحيان بالفعل دون أن نعيره أي اهتمام. وأثناء مشوارنا، الذي اعتقدنا أنه الأخير، قام رجل يجلس بجانب الشباك بفتح الشباك و رمي منديل ورقي من خلاله، المشهد الذي يتكرر معنا دائماً أينما ذهبنا، وليس في هذا "السيرفيس" فقط، فطلبنا من الرجل إعطاءنا المنديل لنتخلص منه عند نزولنا، محاولين بذلك إحراجه للتراجع عن فعلته، إلا أنه أصر على فتح الشباك و رمي المنديل ليعرفنا على نفسه بعد ذلك، بأنه محامٍ، وأنه قام برمي المنديل من الشباك، مخالفاً قناعاته حسب ما أخبرنا، لأنه أخذ على نفسه عهد برمي الأوساخ في الشارع بعد أن رأى شرطي مرور، ركب معه مرةً في أحد "السرافيس"، يرمي كأس شاي بلاستيكي كان بيده من الشباك، فقرر منذ ذلك اليوم أن يخالف النظام و قواعد النظافة، التي خالفها من يجب أن يكون القدوة لنا في تطبيق النظام، و أن يعاقبنا إذا خالفناه. لم نعرف إذا ما كان علينا أن نعذر الرجل أم نؤنبه على فعلته وقراره، الذي اتخذه نتيجة رؤية حالةٍ سيئة، و هل كان علينا أن نشرح له أن الاستثناء ليس بقاعدة، لكن رمي فتاة صعدت معنا حديثاً لورقة داخل "السيرفيس" لأن الشباك لم يفتح معها، أكد لنا أن الخلل أصبح فينا جميعاً، و أن ما رآه الرجل لم يكن حالةً استثنائية، بل أنها للأسف أصبحت الثقافة السائدة عند معظمنا. "الإفلات من الرقابة شطارة" لم تنته "المخالفات" التي اعتدناها ولم نعد نشعر أننا نخالف النظام و القانون بقيامنا بها، عند حدود المخالفات المرورية أو القيادة دون عداد ، أو حتى رمي الأوساخ فهناك مخالفات أكبر من ذلك أصبح مرتكبوها يعتبرون قيامهم بها "شطارة" لا مثيل لها، كسائق التاكسي أبو محمد الذي ركبنا معه في حي باب توما، و الذي كان يشغل سيارته على الغاز مع أن ذلك ممنوع، ولم يكتف أبو محمد بهذا فقط بل أنه حين اقترب من شرطي المرور عند الإشارة، أصبح يوقف السيارة و يعيد تشغيلها مع كل نصف متر نتحركه إلى الأمام كل خمس دقائق، بسبب الازدحام، كي لا يشم شرطي المرور رائحة الغاز و يسطر له مخالفة، و أخبرنا الرجل بلهجة "البطل" أنه يقوم بتسيير سيارته على الغاز منذ مدة و لم يستطع أحد من عناصر الشرطة الإمساك به، و أنه يستخدم الغاز لأنه أرخص، و أنه لم يعد يستطيع تحمل نفقات "البنزين"، و لم يعبأ الرجل بحالة الصداع التي انتابتنا نتيجة رائحة الغاز المتسربة، ولم يهتم للتلوث الذي يلحقه بالبيئة، حتى أنه أخذ أجرته كما لو أن سيارته تعمل على "البنزين" دون أي تقدير أو احترام للنظام و القانون. وأثناء روايتنا لما حصدناه من "مخالفاتٍ" يقوم بها الناس في يومٍ واحد، قالت أم ميشيل "متباهية" بأنها تقوم يومياً برش الحارة بالماء مع أنها تعرف أن هذا مخالف، و أن الجيران قد اشتكوا عليها للبلدية أكثر من مرة، ولكنها تعتبر أنها تجنب بعملها هذا الحارة من الغبار، متناسيةً أنها تجعل الحارة مليئة بالطين صيفاً شتاءً، كما أنها تستخدم الماء كوسيلة لتمنع الأطفال من اللعب أمام منزلها. أما ربيع الذي التقيناه في بقاليته في جرمانا رأى أنه قام بمخالفة القانون لا شعورياً عندما بدأ يفرد بضاعته بشكلٍ متواضع على الرصيف أمام المحل، ولكنه عندما لم يتلق أية مخالفة من أي جهة، بدأ بفرد البضاعة علناً، مجبراً الناس على النزول من على الرصيف أمام دكانه، و المرور إلى جانب السيارات. هنا تدخل أحد الزبائن الذي كان عنده ليخبرنا أنه يتضايق كثيراً من البسطات الممتدة على الأرصفة، خاصةً إذا كان يسير مع أطفاله، لأنه سيضطر إلى النزول عن الرصيف و تعريض أطفاله لخطر السيارات، و لكنه اعتاد هذا الأمر، حتى أنه أصبح يحضر نفسه و أطفاله، أثناء السير على الرصيف ليقول لهم ،هنا سننزل، هنا سنصعد هكذا على طول الطريق. "الشكر حفزني على عدم المخالفة" أما رندة، التي كانت تنتقي الفاكهة في المحل، أخبرتنا أنها لم تخالف ولا مرة في حياتها، وأنها في مرة كانت على وشك ارتكاب مخالفة برمي كيس القمامة إلى جانب الحاوية و ليس في داخلها، ولكنها عدلت عن رأيها و وضعت الكيس داخل الحاوية، لتفاجأ بصوت شخص عرفها عن نفسه أنه رئيس البلدية يشكرها على تقيدها بالنظام، و لأنها ترمي القمامة في المكان المخصص لها، فمنذ ذلك الوقت و هي تسير على النظام بكل تفاصيله، لأنها اكتشفت، حسب ما أخبرتنا، أن تطبيق النظام و عدم تطبيقه، يتطلبان الوقت و الجهد ذاته فلماذا نخالف؟. وتتابع السيدة حديثها لتقول لنا "لا تعتقدوا أنني أقول هذا لأنني أتحدث للصحافة، ولكنني بالفعل لا أخالف، و امنع أولادي، بل و أعاقبهم إذا ارتكبوا أي منها، ولكنني أعتقد أن الشكر الذي تلقيته قد أعطاني دفعاً معنوياً كبيراً، وكان له الأثر الأكبر في عدم ارتكابي المخالفات"، وتضيف رندة أن لو معظم المسؤولين في بلادنا قاموا بما فعله معها رئيس البلدية، والذي جاء مروره مؤكد بالصدفة، حسب قولها، لربما كان هذا تشجيع أكبر للمواطنين للتقيد بالنظام، لعل هذا قد يصلح الحالة قليلاً، خاصةً و أن علم النفس يؤكد على أن أثر الثواب أقوى من أثر العقاب، حتى ولو كان هذا الثواب معنوي، مشيرةً إلى أنه ليس من الضرر أن يتم تخصيص جائزة رمزية على مستوى البلدية أو حتى المدرسة، للطالب المثالي، أو المواطن المثالي. بعد مشوار طويل مع المخالفات التي نعيشها يومياً، والتي أصبحت جزءاً منا، ورصدٍ لحالاتٍ لا تعبر سوى عن جزءٍ صغير من الواقع، لم نعد نستطيع التفريق فيما إذا كانت هذه الأمور التي نقوم بها في كافة مجالات حياتنا اليومية، مخالفة للقانون أم تطبيقاً له، كما أننا لم نقدر حصر ارتكابها بثقافةٍ معينة، أو فئة محددة من الناس. ولم نستطيع التوصل إلى معرفة من هو المسؤول عن هذه المخالفات، أو أن نتمكن من تحميل المسؤولية كاملة إلى طرفٍ معين، سواء كان الرقابة الغائبة على كافة الأصعدة، و التي ترتكب هي نفسها الكثير من المخالفات، عن طريق غض النظر أو التراخي في المراقبة، أو أن نحمل المواطن الجزء الأكبر من المسؤولية ، بسبب تراخيه و إهماله، ومحاولته إعلان مخالفته للقواعد و الأنظمة بشكلٍ علني، و التباهي بها، حتى دفع البعض أن يعتقد "أننا شعب هوايتنا مخالفة النظام، و أنه لو كان النظام هو العمل بعكس القواعد و القوانين، لكنا طبقنا القواعد و القوانين بحذافيرها دون أن نعمل بعكسها".


راما الجرمقاني

"رجال" تحت السن القانوني يؤدون خدمة "الميزان" قبل خدمة العلم

لم يعرف "رامي" الطفل الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره أن ذلك الشاب الذي يشتري منه "الكولا"، في كل مرة يراه فيها، أنه يترصده ليعتدي عليه في حديقة كبرى بدمشق
إذ أخبرنا الطفل أن الشاب بدأ يضربه أحد المرات على مؤخرته ويمسكه من أماكن حساسة مبررا الأمر بالمزاح. يقول رامي بأنه يبيع "الكولا" للزبائن في الحديقة منذ عامين وأثناء العمل قد نبهه والده من الاقتراب من الشباب الأكبر منه سنا، وأن لا يلبي دعوة أي منهم على أي مكان، ولكن الأمر لم يتوقعه عندما أخبره الشاب أن في الحديقة، وفي مكان منزوي وفي توقيت المساء تحديدا أن هناك شجرة مشمش بإمكانهم أن يأكلوا منها، وعند الوصول أمسكه ليقبله، وعلا صراخه إلى أن سمعه بعض الشبان، وكذلك حراس الحديقة الذين أوسعوا الشاب ضربا وسلموه إلى قسم الشرطة القريب. ورغم كل القوانين التي صدرت في سوريا، وكذلك الاتفاقيات العالمية التي تخص حقوق الطفل وكذلك تمنع عمله، إلا ان قصة رامي "الصريحة" وقصص عشرات الأطفال مثله في شوارع دمشق تؤكد البعد الكامل لثقافة المجتمع وربما فقر بعض شرائحه عن تلك الاتفاقيات، وحتى القوانين حيث "استغلت" بعض العائلات وضع أطفالها لتعلمهم كيفية "تحصيل" المال وبطريقة سهله، ومع كل ذلك لنبدأ علنا نصل إلى الحقيقة ونحن نعرف أنها في تفاصيل حياة هؤلاء الأطفال صعبة المنال. خائف من والده.. ويعمل "حطوا الخمسة ومشوا" تلك العبارة وضعها محمد ذو الأعوام العشرة كحاجزٍ أمامنا ليمنعنا من التحدث معه بعد أن حرك رأسه بكافة الاتجاهات دون أن يزحزح جسده النحيل من على بلاط الرصيف الساخن الذي اتخذه مكاناً له مع ميزانه الصغير تحت أشعة الشمس الحارقة.. مشينا قليلا بعد أن يأسنا من التحدث معه فجاء صوته يقول: "عنجد ما بقدر احكي معكم بيقولوا لأبي! بس في غيري كتير بيحكوا". وحقيقة إن عشرات الأطفال بل المئات يعيشون معاناة محمد اليومية في شوارع دمشق، إذ يجلسون في زوايا معينة وعلى إشارات السيارات أمام الجامعات والجوامع والملاهي والمطاعم.. يحجزون على الأرصفة والطرقات مكانا ً لإقامتهم الدائمة وربما يتعلمون ويعلمون أولى دروس الانحراف والجنوح.حملنا الكاميرا وبعض "الفراطة" وتابعنا بحثنا عن حالات أخرى حيث تبين أن منطقة جسر الرئيس والبرامكة وسط دمشق المكان الذي يتجمع فيه العدد الأكبر من هؤلاء الأطفال الذين يحاولون أن "يساعدوا" أسرهم بموازينهم أو علب العلكة في الوقت الذي عجز فيه ميزان العدالة الاجتماعية عن رؤيتهم. على بعد عدة أمتار من مكان جلوس محمد رأينا "حسين" الطفل ذو الثماني سنوات يجلس على الأرض مسنداً ظهره إلى حديد السياج الساخن مستعيضاً بسخونته عن البرودة الموجودة في نظرات الناس الموجهة نحوه. كان حسين يضع الميزان أمامه وينظر إلى الناس نظرة ذلٍَ واستعطاف، تردد في الكلام معنا في البداية ولكن بعد أن أخذ أجرته وزيادة قليلة بدأ بإعطاء الإجابات التي استطعنا أن نعرف منها أنه الولد الأكبر في العائلة ولديه أخ وأخت ووالده يعمل سائق على أحد السرافيس وأنه من محافظة الحسكة ومن إحدى القرى فيها أصلاً، وأخبرنا أنه يعمل يومياً منذ ساعات الصباح الباكر حتى آخر الليل يجني يومياً ما بين الـ /50 -200/ ليرة سورية وأكد لنا أن والده لا يعاقبه مهما كان المبلغ الذي حصل عليه.وتابع: "أبي لا يعاقبني ولكن هناك بعض الناس يضايقونني أحياناً لذلك أعود إلى المنزل باكراً". و لكن دهشتنا كانت كبيرة عندما علمنا أن حسين لم يدخل مدرسة في حياته وأنه لا يعرف القراءة أو الكتابة وأن كل ما يعرفه عن مبادئ الحساب تقتصر على عد النقود التي يعود بها إلى المنزل يوميا.وعندما سألناه عن المدرسة نظر إلينا نظرة حسرة وقال: "يا ريت بقدر روح على المدرسة وبشتغل بعد ما ارجع "وقبل أن نتركه لنتحدث إلى طفلٍ آخر سألناه: منذ متى وأنت تعمل؟ فقال مباشرةً: "من شهر" وبعد عدة كلمات تبين أن حسين يجلس في مكانه هذا منذ أكثر من سنة وأنه لا يعرف تقدير المدة الزمنية بشكل صحيح. فغادرنا ونحن لا نعلم إن كان عمره بالفعل ثمان سنوات أو أكثر أو حتى أقل؟!.
الإحصاء يظهر أن نسبة العمالة في الريف أكبروقد أظهرت دراسة أعدها المكتب المركزي للاحصاء في سوريا ومنظمة «فافو» النرويجية أن مجموعة الأطفال من عمر 10 الى 11 سنة تساهم بنسبة 1،3% في العمل، مما يعني ان 439،26 طفلاً يعملون.. فئة الاعمار بين 12ـ14 سنة تساهم بنسبة 8،12% أي 171659 طفلاً، وفئة 15ـ17 سنة تساهم بنسبة 9،32% أي ما مقداره /422856/ طفلاً.. ويبين المسح ان ثلثي الأطفال العاملين يتركزون في المناطق الريفية، بينما الثلث الآخر يعمل في المدن والمراكز الحضرية. وهذا الفرق ناتج عن عمل الفتيات في القطاع الزراعي. ربما شمل الإحصاء "باسل" الذي يجلس في زاوية صغيرة تحت الجسر وربما لم يشمله ولكنه كان يحمل علب العلكة ينتظر زبوناً وعندما اقتربنا فرح وبدأ يدعو لنا بالنجاح والخير ولكنه عندما علم أننا اشترينا منه لكي نتحدث معه خاف قليلاً وأجابنا أجوبة مقتضبة وفر هارباً ولم يسمح لنا أن نصوره ولكن بعض رفاقه أعطونا معلومات عنه أنه صف سابع ولا يعمل سوى أيام العطل وهم الآن في فترة الانقطاع من أجل التحضير للامتحانات وعندما سألنا الأطفال هل تعملون أيضاً أجابوا: "لا ولكننا نساعد صديقنا". فسألنا: كيف؟ قالوا: "ندله على الزبون الذي نشعر أنه من الممكن أن يشتري منه دون أن يزعج باسل أو أن يلح عليه كثيراً كي لا يتعرض للإهانة" فقلنا: وهل تعرض للإهانة في مرة سابقة؟ فقالوا: كثيراً ما يقوم الناس بإبعاده بقوة أو توجيه بعض الكلمات السيئة له أو تنفيض ثيابهم من بعد أن يلمسهم بعلب العلكة فكل ذلك يزعجه ويؤثر به".
البعض يعمل.. والبعض يتسول..ومن دون أن نجهد أنفسنا بالبحث اقترب أحمد الصغير جداً حسب مقاييس العمل في الشوارع لكي يبيعنا العلكة التي بيديه فقمنا بإعطائه ثمنها دون أن نأخذ العلبة منه كي يبيعها مرة أخرى ويربح منها فنظر نحونا نظرة ملؤها الكبرياء بعينيه اللتين لمعتا من الدموع التي تجمعت فيهما ورمى لنا بالعلكة وقال لنا: "خذوها بثمنها أنا لا أشحذ منكم أنا أبيع".وقبل أن نستيقظ من صدمة المشهد السابق تكرر المشهد أمامنا ولكن مع طفلٍ آخر رفض أخذ ثمن ما يبيع دون بيعه فعلاً وترك العلكة لشابٍ أمامنا على الرصيف بعد أن رفض أخذها وتبين لنا فيما بعد أن هذين الطفلين أخين/ أحمد وعلاء/ وهما حديثا العهد بالعمل ولا أحد أعطانا أية معلومات إضافية عنهما. وعلى نقيض الحالتين السابقتين فإن عمر صف سابع قد قبل ما أعطيناه بكل سرور وفرح عندما تركنا له ما يبيعه معه وبدأ بالدعاء لنا وعندما سألناه: هل تأخذ دائماً المال دون أن تبيع فقال بفرح: "نعم فهذه شطارة" فسألناه ألا تعتبر الأمر شحاذة؟ فقال: "اعتبروها كيفما تريدون المهم أن أعود إلى المنزل بـ /200/ ليرة يومياً" ثم انصرف ولم يرض أن يتابع الحديث معنا. التدخين يجعلهم رجالا وأمام تجمع كليات البرامكة شاهدنا أحد الأطفال والذي لا يتجاوز الـ /12/ سنة يدخن أمام باب الكلية منتظراً زبون كي يبيعه علكة فاقتربنا منه وسألناه: هل يشتري منك أحد وهم يروك تدخن؟ لا أحد يعطيك لتدخن بما تجني؟ فقال: "أنا رجال وبعمل كيف ما بدي" ثم أضاف "ما حدا طلب منكن تشتروا" وقال لنا صديقه الذي بجانبه: "جميعنا هنا ندخن وكل الذين يعملون مثلنا أيضاً" فسألناه: ألا يعاقبك والدك إذا رآك تدخن؟ فقال: "أنا الأب في المنزل فوالدي متوفى وأنا أعمل لأصرف على أمي وأختي وبعدين نحنا كبار". وقال الآخر: "كل الشباب في هذه المنطقة يدخنون وإذا كنت لا تدخن فستصبح مدخن بعد أقل من شهر من العمل لأنهم لا يحترموك أو يعتبروك كبير إلا بهذه "وأشار إلى لفافة التبغ في يده، فقلنا له: ولكن هل يكفيك ما تحصل عليه من البيع لتدخن وتؤمن حياة أسرتك؟ فقال: "أنا ما بحمل باكيت أنا بدخن شحادة متل ما بيقولوا" وضحكا ثم طلبا منا الانصراف. في نهاية الأمر سورية صادقت على اتفاقيات العمل الدولية والتي تضمن بعضها احكاماً تتعلق بتشغيل الاحداث وتأمين الحماية لهم، وعملت على تطبيقها، وذلك منذ انضمامها الى منظمة العمل الدولية في سنة 1947، ‏ كما صادقت الحكومة على اتفاقية حقول الطفل، في سنة 1993 التي اقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر تشرين الثاني عام 1989... ومع كل ذلك لم تصادق على طريقة جدية وحضارية وقانونية تحد حقا من عمالة الأطفال وتشغيلهم ليؤدون خدمات العلكة والميزان ومهن أخرى قبل خدمة العلم... الإجبارية.

راما الجرمقاني

http://www.orient-tv.net/index.php?page=program&id=139

البغل" مشروع "استثماري" عند الفقراء لم تعتبره الحكومة من وسائل الترفيه بعد!

من النادر أن يستوقف منظره و هو يسير في الشوارع اهتمام المواطن السوري، لأنه أصبح جزءاً من يومياتنا التي نعيشها في كافة أيام السنة، بل أنه أصبح أحد أهم مظاهر فرحنا و الطقس الأساسي الذي يتواجد بقوة في كل عيد ليشارك أطفالنا بهجتهم، لم تعد مراسم استقبال الشتاء تكتمل لدينا من دون أصوت أقدامه
التي تجلب الدفء" المازوت" معها، ولا حتى يمكننا أن نستقبل الصيف بلا عربات "العوجا و الجارنك" التي تؤكد اقتراب وصول هذا الفصل."البغل السوري"حاضر في تفاصيل حياتنا يشاركنا فصولنا و مناسباتنا و أفراحنا و أمثالنا بل وحتى شتائمنا من دون أن نحاول إعطاء هذا الحيوان الهجين حقه، ونرد له الجميل الذي يقدمه لنا من دون أن نشعر..
"طعميه..بطعميك"
في سوق"البغال و الحمير" في منطقة حرستا الواقعة في ريف دمشق رأيناه يقف بفخر أمام بغله المزين بشكل متناسق يبحث بين الزبائن عن شخص يليق باستئجار بغله "المدلل" مع "طنبره" الذي يبيع عليه المازوت ."كرمو"الشاب الثلاثيني أخبرنا أن اهتمامه الكبير بـ"بغله" يرجع لكون البغل مصدر رزقه الوحيد، فهو حيوان نشيط يمكن استغلاله، طيلة أيام العام و بكافة الفصول في أعمال مختلفة، و أضاف أن كل يوم هو موسم حقيقي بالنسبة للبغل، ففي موسم التفاح يعمل بجر عربة بيع التفاح و في موسم البطيخ كذلك و البصل، هكذا في كافة المواسم، و أنه في الشتاء يجر "طنبر" المازوت،إلا أن الطلب على استئجاره يرتفع في فترات الأعياد حيث يتم تأجيره للأطفال لركوبه أو لجر العربات و القيام بجولات في دمشق.و تابع "كرمو"بعد أن نظر بفخر و مودة إلى حيوانه و مسد له رقبته:"البغل لا يطلب من صاحبه شيء فهو يعمل بهدوء، و يكفي أن تطعميه حتى يطعميك أنت و عائلتك"،و أخبرنا الشاب أن كلفة البغل يومياً لا تزيد عن /100/ ل.س /75/ شعير و /25/ تبن، في الحين الذي يصل أجار البغل في اليوم الواحد إلى /150/ ل.س و مع "طنبر" بـ/350/ ل.س وطبعاً يزيد السعر في المواسم و وقت الأعياد.و بعد ابتسامةٍ عريضة اعترف لنا الشاب أن أكثر المصاريف التي تصرف على "البغال" هي المصاريف المتعلقة بالزينة، فهناك من يزين بغله ،خاصةً الذي يستخدمه في المناسبات، بزينة يصل سعرها إلى /10/ آلاف ليرة و هناك زينة عادية كالتي يضعها لـ"بغله" ثمنها /2500/ ليرة.
كلما كان "أصغر" ازداد الطلب عليه
في أثناء حديثنا مع "كرمو" تدخل أبو علي الذي كان يقف بجواره في سوق "الخميس" أو "سوق البغال و الحمير" ليخبرنا بأسى أن جاره فخور بـ"بغله" لأنه مازال فتياً إلا أن البغل الذي يتقدم في العمر تصبح "همته" على العمل أقل مما يسبب الأضرار لصاحب البغل بل و أن إطعامه يصبح عالة عليه و لكنه مع كل ذلك يبقيه لديه نظراً للرابط الذي ينشأ بين "البغل" و صاحبه، فالشخص لا يمكن أن ينسى للبغل الأيام التي ساعده فيها و العمل الذي كان يقدمه له و لكن في بعض الأحيان يضطر للتخلص منه، مع بقاء ذكريات كانت تربطه مع صاحبه .و يضيف أبو علي بشيء من السخرية أن كل هذا عادي أمام أن يموت البغل فجأة بالتأكيد سيسبب مصيبة لصاحبه كما حدث معه ، فلقد اضطر إلى استدانة مبلغ /25/ ألف ل.س لشراء بغل "جديد" فتي ،و ذلك أغلى من البغل الهرم ،الذي يتراوح سعره بين /15-20/ ألف ل.س و أن هذا السعر يزيد أو يقل قليلاً حسب عمر البغل و الموسم الذي يبلغ ذروته في الصيف.و يتابع أبو علي ليخبرنا أن سعر البغل لا يتوقف فقط على عمره فـ"البغل" مثل السيارة تماماً له موديلات و أنواع تختلف جودتها و قدرتها على التحمل حسب نوعي السلالتين اللتين ينتمي إليهما الحيوان المهجن، و لكنه يؤكد على أن أسوء أنواع "البغال" هي التي تعض أو ترفس فهذه يصل ثمنها إلى /5/ آلاف ل.س و مع ذلك فإن القليل من الناس يقدم على شرائها، و لا بل أحيانا يضطر البعض للشراء بسبب فقره، و يحاول أن يتجنب عضتها.
البغل أهم من السيارة مليون مرة
وبينما كنا نتحدث مع الرجلين اقترب منهما زبون يريد شراء أو استئجار بغل، حسب السعر الذي سيتم الاتفاق عليه، ومن خلال حديث الزبون مع البائعين أو "المستثمرين" استطعنا أن نعرف أنه يريد البغل ليبيع عليه الخضار في مناطق داخل دمشق وعندما سألناه إذا ما كانت السيارة أفضل من البغل خاصة و أنه يريد التنقل ضمن شوارع العاصمة مما قد يعرضه إلى مشاكل كثيرة.أجابنا أبو عبدو أن البغل "مشروع استثماري" مضمون أكثر من السيارة بكثير و أهم من السيارة بمليون مرة، فهو لا يحتاج إلى مبلغ مالي كبير لشرائه مقارنةً مع السيارة، إضافةً إلى أنه لا يتوجب على صاحبه دفع "رسوم تنمير" أو "ضريبة رفاهية" ،إلا إذا كان البغل قد أصبح أحد وسائل الترفيه بنظر المسؤولين، كما قال مازحاً ، و الأكثر من كل ذلك أنه لا يحتاج إلى "رخصة قيادة" فببعض الكلمات المتعارف عليها لدى أصحاب "البغال" مثل "هش، دا " و غيرها يتم إيقاف البغل أو أمره بالتقدم إلى الأمام بكل بساطة.و تابع أبو عبدو حديثه ليخبرنا أنه حاول شراء سيارة ليبيع خضاره عليها لكنه وجد أن جميع الخضار التي تتجها مزرعته و ربما مزرعتين مثل مزرعته لن تكفي كلفة البنزين الذي ستصرفه السيارة، أما البغل بـ/100-200/ ليرة يومياً يعمل /24/ ساعة دون الحاجة إلى صيانة أو قطع غيار فأمراضه معروفة و طرق معالجتها سهلة و لا داعي للذهاب إلى البيطري لمعالجتها. بعد هذه الجولة في سوق "البغال" شعرنا أننا بحاجة للتفكير أكثر بأهمية هذا المخلوق و احترامه أكثر فهو يستحق الاحترام بكل جدارة، وربما أكثر من بعض البشر، فهو صابر يعمل من دون تذمر و قوي قادر على الاحتمال، فالبغل في عرف المهربين يستطيع حمل "أربع تلفزيونات" دفعة واحدة و كان له "عز" أيضا و الأهم من ذلك أنه راض بقسمته "غير متمرد" يشبه الكثير منا، و عدا عن كل ذلك يؤمن عيش الكثير من العائلات السورية بطعامه فقط.لذلك علينا أن نعيد التفكير في كلماتنا ومصطلحاتنا التي نستخدمها في حياتنا اليومية من دون أن ننتبه إلى المعنى الحقيقي لها، و أن نكون أكثر حذراً أثناء شتم بعضنا البعض و وصفنا الآخر بكلمة "بغل" لأننا نعيش ظروفاً تشبه ظروف معيشته بكل تفاصيلها ..و خاصة لجهة الدوران في المكان.أخيرا نقول أنه من المنصف أن نتخلى عن كلمة "البغل" من قاموس "شتائمنا" بكلمة تعبر عنا نحن البشر
راما الجرمقاني

جيراننا هادئون للغاية.. العيش قرب صمت القبور

عادةً ما نستخدم كلمة "جوار" و"يجاور" في وصف مكان سكننا لشخص آخر، وغالباً ما نحاول البحث عن "نقطة علاّم" بارزة تسهل

توصيف المكان والوصول إليه. ومن الشائع أيضاً أن نتباهى بتجاور مساكننا لقصر فاخر أو متحف أثري أو حديقة أو حتى لمسكن شخصية مشهورة، بل ونسعى للبحث عن هذه "النقاط" في "الجوار" حتى نربط مكان إقامتنا بها، شاعرين أن "قيمة" ما يحيط بنا تزيد من "قيمتنا" خاصة إذا كان المسكن يقع في حي "شعبي" أو "من الدرجة الثانية". ولكن هل من الممكن أن تصبح "نقطة العلام" التي نشير بها إلى منازلنا علامة خوف ورعب؟ وهل من الممكن أن ذكر مكان إقامتنا قد يدعو البعض إلى النفور وتجنب الاقتراب منا؟ وهل يفرض علينا المكان الذي نعيش فيه نوعاً من "التأقلم" حتى ولو كان مع أشياء يعدّها البعض غير مستحبة ومكروهة لا بل مخيفة؟ وهل نصل إلى المرحلة التي نخجل عندها من ذكر أين نسكن ونحاول التهرب من الإجابة خاصةً أمام أشخاص نلقاهم للمرة الأولى؟ جميع هذه الأسئلة حاولنا طرحها على "جيران المقبرة" لنعرف رأيهم بالعيش بجوار المكان الأشد "كرهاً ومقتاً" عند أغلبية الناس، ونتعرف إلى أي حد أصبحت حياتهم تشبه "جارتهم" أو أنهم استطاعوا إعطاءها نوعا من الحركة يتحدون به "الموت".

"جارتنا" منحتنا "نعمة" حرم منها الكثير من الناس في الوقت الذي يعدّ الأكثر ازدحاماً بدمشق، أي وقت الظهيرة، مشينا في الشوارع الخالية التي تحيط بمقبرة "الباب الصغير" باحثين عن شخص قد رضي بالسكن بجوار "الموت" لنجد "محمود" يجلس أمام دكانه الصغير، اقتربنا منه لنسأله عن رأيه في مكان سكنه، فابتسم مستغرباً بعض الشيء ليقول لنا أنه لم يفكر طيلة حياته بأنه يسكن بجوار المقبرة، إذ يعدّها جزءاً من الإطلالة الطبيعية لشرفة منزله، الذي يقع في بناء محله نفسه، وأن المقبرة لم تشكل له أي مصدر إزعاج على الإطلاق بل أنها كانت المكان الأمثل للاختباء أثناء اللعب مع رفاقه، عندما كان صغيراً. وأخبرنا الشاب أنه على عكس ما يعتقد البعض فإن المقبرة قد منحت سكان المنطقة هدوءاً "رائعاً" قد حرم منه سكان باقي الأحياء في دمشق، وأن الساعات القليلة التي يأتي بها أهل الموتى إلى المنطقة لا تشكل لهم إزعاجاً لأنها تكون ضمن ساعات النهار وقد اعتادوا على أصوات البكاء ومراسم الدفن بل أنهم أصبحوا "يسبقون" الشيخ في صلاته "وسيتنبؤون" بحركات الحفار قبل قيامه بها. وأضاف "محمود" أن الهدوء الذي يعيشونه لا يؤمن لهم الراحة فقط بل يسهل عليهم التعرف على أي احد سيحاول السرقة أو افتعال المشكلات في المكان لأنهم يشعرون بـ "دبيب النمل" حسب تعبيره، وأن كل صوت غريب يستطيعون تعرفه والعمل على إيقاف الشخص الذي يصدر عنه قبل أن يستطيع القيام بأي شيء، على عكس بعض المناطق التي قد يسرق فيها منزل في وضح النهار دون أن يشعر جاره الذي يشاركه الحائط نفسه بذلك. وهنا تدخل "أبو صياح"، الذي يعمل في محل مجاور، ليؤكد على "حسنات" العيش في جوار المقبرة، ويصف لنا أن السكن بجوار المقبرة هو "بركة" حسب ما وصفه له شيخ لطائفة دينية في إيران، وأخبرنا "أبو صياح" أن الناس يعدّون أنه بمجرد السكن جوار "العظماء" المدفونيين في مقبرة "الباب الصغير" كزوجات النبي محمد، وملوك بني أمية، والشاعر نزار قباني، والفارابي..." كل ذلك يعدّ إرثاً وتاريخاً مشرفاً يعتزّ به سكان المنطقة وهو غير متاح لغيرهم في أي مكان آخر. خيّرته بين الطلاق أو الانتقال من المنزل! أبو محمود الذي يسكن مقابل المقبرة في "الباب الصغير" والذي رأيناه مع ابنته الصغيرة يمشيان على الرصيف المجاور لسور المقبرة، أخبرنا أن السكن بجوار هذا المكان قد اعتادوا عليه ولا يؤثر على حياتهم أبداً، فهم يعيشون بشكل طبيعي وأطفالهم يذهبون إلى المدارس يومياً ويمرّون من أمامها دون أن تلفت انتباههم، أو أن يشعروا بشيء غير مألوف في ذلك. وتابع "أبو محمود" ليخبرنا أن أصوات الرصاص التي يطلقها ذوو الميت أحياناً، خاصةً إذا كان شاباً صغيراً، قد تسبب الرعب للأطفال الصغار، وأنه وجميع السكان يحاولون منع الأطفال من رؤية منظر الجثث أثناء دفنها، ولكن ذلك يحدث بشكل عرضي ولا يؤثر كثيراً على سير حياتهم، وأنه من النادر أن يستيقظ أحد الأولاد ليلاً من الخوف إلا إذا كان قد سمع قصة ما حول الأشباح أو الأرواح وغيرها من الخرافات والتي لا وجود لها أبداً، حسب ما أكد الرجل، وأنهم لم يتعرضوا ولا مرة إلى أي نوع من هذه الحوادث التي تحدثت عنها الخرافات. وقال لنا الرجل أن المشكلة الوحيدة في السكن أمام المقبرة تكمن في الروائع الكريهة التي يشمونها أحياناً مع هبوب الرياح، والتي تنتح عن فتح القبور مرة ثانية من أجل دفن أموات جدد، فوق الجثث القديمة، دون أن تكون الجثة الأولى قد تحللت تماماً ما يؤدي إلى صدور هذه الروائح التي تؤذي الناس وخاصةً الأطفال، مع العلم أنه هناك مدرسة للتعليم الأساسي بالقرب من المقبرة. وأضاف "أبو محمود" أن السكن في الحي جيد ولكن كان من الأفضل لو يتم تحسين "منظر" المقبرة قليلاً حتى يشعر الشخص بالراحة أكثر، فالمقبرة في بلاد الغرب "بتشهيك تعمل سيران فيها"، كلها مساحات خضراء، أما عندنا فحتى المساحة المخصصة لزراعة النباتات، حسب مخطط المحافظة، تم دفن موتى فيه. وتابع الرجل شارحاً أن المقبرة قد كانت منذ زمن على مستوى الأرض أما اليوم فقد ارتفعت سبعة طوابق وضحك معلقاً "ربما بعد عشر سنين سترتفع لتصل إلى خمسة وعشرين طابقاً، أو أنها ستحجب نور الشمس فيما بعد لتحول بيوتنا إلى مقبرة أخرى". وفي نهاية شارع مخيم اليرموك ثمة مقبرة من نوع آخر، هي مقبرة الشهداء، وقد امتد حولها الكثير من البيوت، "ليس حباً وإنما اضطراراً" حسب ما قال لنا "أبو أحمد شيخاني" الذي يسكن في منزل لا يبعد سوى أمتار عن جدار المقبرة، ومع ذلك أكد لنا الرجل على أن الأمر طبيعي ولا يوجد خوف وخاصة عند أولاده الشباب وأما البنات "حدث ولا حرج عن الخوف". يقول أبو أحمد "إنهن لم يتعودن على هذا السكن وأكلن رأسي بمطالبتي بأن أنتقل من هذا المنزل، وأقول لهن.. المقبرة ما بتخوف والميت ما بيقوم". وعلى ما يبدو أن فكرة العيش بجوار المقبرة، كانت إلى وقت قريب يحكمها الخوف من الموت ومن طقوس الدفن، وحتى أن العائلات التي كانت مضطرة للسكن حول المقبرة لا تحبذ الحديث عن "جمال بيتها وموقعه" حسب ما روى أبو أحمد، أما هذه الأيام وبسبب أزمة السكن يعلق الرجل "إذا واحد منا صار له بيت ويعيش في المقبرة ما بيقصّر". أما سعيد الذي يملك محلاً بجوار مقبرة "باب الصغير" فقد رأى أن العيش في هذه المنطقة لا يختلف عن أي منطقة أخرى فلكل منطقة مميزاتها، وقال الرجل إن الناس قد بدؤوا يتقبلون فكرة العيش بالجوار، وأن هناك الكثير من الأبنية الحديثة التي ما زالت قيد التشييد ما يدل على وجود راغبين في السكن. وأضاف سعيد أن سعر المتر في المنطقة ليس رخيصاً أبداً فهو يكلف بين /24-25/ ألف ليرة سورية أي حوالي /4-5/ ملايين ليرة ثمن للشقة الواحدة، وأن هناك سكان جدداً باستمرار، وتابع الرجل ليقول لنا إنه على الرغم من ذلك فإن هناك أناساً وصفهم بـ "المتخلفين" يرفضون العيش في المنطقة بسبب المقبرة، وروى لنا قصة جاره الذي خيّرته زوجته بين العيش في المنزل الجديد بجوار المقبرة أو تطليقها ما اضطر زوجها إلى بيع البيت بـ "الرخص" وخسارته حوالي /500/ألف ليرة سورية لأن زوجته لا تستطيع النوم بسب "أرواح الأموات التي تحول حول المقبرة ليلاً". نمرّ أمامها جرياً ومن المستحيل أن ندخلها ليلاً وأمام دكان سعيد تجمع بعض الأطفال الذين خرجوا من المدرسة وعلامات "الحياة" بدت واضحةً على وجوههم لا تشير إلى أي علاقة تربطهم بـ "الموت" الذي يسكن المكان، وحتى أن شغبهم طغى على هدوء المكان وسكينته. وبكل عفوية قال لنا أحمد الطفل في الصف الخامس إنه لا يدخل المقبرة أبداً إلا إذا كان مضطراً، وأنه عندما يمرّ من أمامها "يقب بدنه ويقشعر جلده" من الخوف، وعندما يضطر إلى اجتياز الطريق المؤدية إلى بيته ليلاً يغمض عينيه ويفرّ هارباً دون أن يفتحهما حتى يطمئن أنه وصل إلى "بر الأمان". وأضاف أحمد أنه قد رأى أمواتا كثر لكنه لا يحب رؤيتهم لذلك يركض عندما يمرّ من عند باب المقبرة، وأنه عندما يكون أمامها يتذكر جميع القصص التي رويت له عن الأرواح والأشباح لذلك يركض ليتخلص من هذه الحكايات. أما فاطمة، صف سادس، فتقول بأنها تدخل إلى المقبرة أحياناً ولكن في الصباح فقط فهي من المستحيل أن تدخلها ليلاً، وأنها تعودت رؤية الجنازات، وقالت لنا إنها عندما ترى الجنازة تكتفي بقراءة "الفاتحة" على الميت ثم تتابع طريقها. أيمن، صف سابع، كان أجراً قليلاً من صديقيه حيث أخبرنا أنه يدخل إلى المقبرة ليلاً ولكنه لا يدخلها بمفرده، وعندما يدخلها بمفرده يكون "معاقبا" من قبل أصدقائه لأنه أدخل الكرة إلى داخل المقبرة وعليه جلبها بمفرده حتى لا يقوم بذلك مرة أخرى. تناقضٌ كبير يعيشه "جيران المقابر" في كل مكان يجمع بين رهبة "الموت" وإصرار على "الحياة"، بعضهم قد تعايش مع الوضع ووجد في مسكنه مميزات "تقنعه" بحالته، وبعضهم تمرّد على وضعه مستعيضاً عن الهدوء في الشوارع بالهدوء النفسي، ولكن الجميع قد أجمع على شيء واحد "العيش بجوار المقبرة: مكرهُ أخاك لا بطل".


راما الجرمقاني

بفمه و قدميه أصبح خطاطاً

يحلم بـ"كشك" في حي مساكن برزة و أمنيته أن يضع المسؤولين في السجن !

يجلس أمام باب القصر العدلي في شارع النصر بدمشق و أمامه طاولته و الأوراق الخاصة بالمعاملات، يشرب الشاي بما "تبقى من يده اليمنى"، ثم ينتقي زبونه من بين العشرات من المواطنين، ويرفع قلمه بفمه ليبدأ بالكتابة.لفت نظرنا بالطريقة التي يكتب بها، والناتجة عن حرمانه من يديه الاثنتين، اقتربنا منه و حاولنا تبادل الحديث معه بشيء من الحذر، إلا أنه كان مرحباً بنا خاصةً بعد أن علم أننا "صحافة" ومن الممكن ان نساعده في إيجاد حلٍ لمشاكله و تحقيق حلمه!.خلال حديثنا مع "سعد" الذي يبلغ الأربعة و الثلاثين عاماً قال لنا أن ما يسميه الناس بـ"الإعاقة" لم تستطع أن تمنعه عن ممارسة حياته بشكلٍ طبيعي فهو يستطيع الكتابة بقدمه و فمه و أنه خطاط و رسام و يحمل شهادة ثانوية عامة تجارية، كما أنه مدرب "تايكوندو و كيك بوكسينج" في نادٍ يقع بمساكن برزة قرب بيته، و أنه يعمل في مكانه أمام المحكمة منذ سنتين تقريباً. وأخبرنا الشاب بعد أن تنهد بقوة و بشيء من الألم أن مشكلته الكبرى في الحياة وشغله الشاغل هو حصوله على رخصة لفتح "كشك" قريب من منزله، و أنه قام بتقديم طلبات للمحافظة و بشكل متواصل منذ عام /1990/ حتى /1996/ و حصل على موافقة مبدئية من المحافظة بتاريخ 23/3/1993 بقرار رقم /3333/ إلا أن الموافقة لم تأت بشكل كامل حتى تاريخ اليوم.ويتابع سعد "أنا لا أريد "الكشك" سوى لقربه من منزلي و لأنه سيوفر علي بعض الاحراجات التي أتعرض لها في مكان عملي الحالي"، وأخبرنا أن عمله الحالي جيد فهو يجني ما بين /1000-500/ ليرة يومياً، على الرغم من أنه لا يقبل بكل الزبائن، فهو حسب ما شبه نفسه"كسائق التاكسي البطران"، و لكننا علمنا السبب الحقيقي لاكتفائه بالقليل من الزبائن و إرساله الآخرين إلى غيره من كاتبي المعاملات،حيث روى لنا العديد من القصص عن المضايقات التي يتعرض لها من الكاتبين الآخرين التي وصلت إلى حد "الضرب"، وكيف أنهم حسب ما قال"يعايرونه" بإعاقته مرددين على مسمعه أن إعاقته لن تكون السبيل كي يشفقوا عليه و يتنازلوا عن الزبائن له.حين كنا نجلس معه في "مكتبه" على الرصيف مر شخص و قام بوضع بعض المال أمام سعد و الذي طلب من الرجل أن يرجع نقوده إلى جيبه فهو لا يحتاج لها ، و التفت نحونا وقال "أنا لا أريد شفقة أو مساعدة من أحد حتى من جمعيات رعاية المعوقين و التي لن تقدم المساعدة لي أصلاً ".وتابع ليخبرنا أنه لا يريد سيارة خاصة بالمعوقين لا يقدر على دفع تكاليفها أو حتى بيعها لأن المعاق الذي مثله يستطيع الحصول عليها مجاناً، فهو بحاجة لسيارة يقوم بتأجيرها ليصرف على بيته و أولاده، و بحاجة لعمل يتناسب مع طبيعة وضعه دون أن يعرضه للإهانة من قبل الناس.و ابتسم سعد قائلاً "إن حلمي الوحيد في هذه الحياة أن استلم منصباً مهماً في الدولة لعدة ساعات حتى أتمكن من زج جميع المسؤولين في السجن عقاباً لهم على عدم الرأفة بمثل الحالات التي تشبه حالتي فنحن،أي المعاقين، كلما حاولنا ان نعيش كالناس العاديين يأتي أحد ما و في أي مكان ليذكرنا بإعاقتنا الجسدية، متناسين الإعاقة التي تحملها أرواحهم التي تكمن في نقص الإحساس و الشعور لديهم".

راما الجرمقاني

عندما تتحول أرصفة دمشق إلى مول كبير!!!!

تتسوق اليوم في دمشق فإن هذا لا يتطلب منك دخول أي متجر أو سوق أو " مول " أي ليس بالضرورة أن تعيش متعة مشاهدة الأشياء المصفوفة في مكان محترم لشرائها لأننا قررنا أن نفرش ما لدينا على أرصفة دمشق ، فنحن بلد " كل شي بدك ياه بيجي لعندك ، محاولين جعل عملية البيع والشراء أكثر حميمية لتلبي جميع احتياجات المواطن من الجرابات والملابس العادية وحتى الداخلية إلى الأدوات الكهربائية مروراً بالمكياج والعطور وقشارات البطاطا وأجهزة التحكم و الكتب والمجلات حتى الطعام و الشراب .
إذا كانت ولسنوات قريبة مضت قد انتشرت بسطات الشوراع بما تبيعه من أشياء ، فهذه الأيام تحولت تلك البسطات إلى أمكنة ضخمة أشبه بمولات كبيرة بالطبع ليست كأي مول في دولة قريبة أو بعيدة ، فهي مصنوعة على طريقة السوريين الخاصة ، أو على طريقة تلك الشريحة المحدودة الدخل .

" البسطة " طريقة تعبير عن العلاقات الإنسانية !!
وفي حال قرر المواطن السوري شراء كل متطلبات حياته من على الرصيف فبالتأكيد لن ينقصه شيء كما أكد لنا الشاب خليل الذي يسكن في باب شرقي بمفرده ، فهو مثلاً يرى أن غرفته الرطبة التي يسكنها تحتاج إلى شرفة ليشرب عليها فنجان القهوة صباحاً ، وبما أن هذا مستحيل في البيت بسبب الازدحام والأصوات من سكان المنزل ، فإنه يلجأ إلى شرفة الرصيف ليشرب فنجان القهوة على موقف باب شرقي التي يشتريها من أبو عامر صاحب بسطة لبيع الشاي والقهوة و النسكافيه والزهورات ويضيف خليل بأنه يعتبر أن هذه البسطة تختصر أحلامه فهي تجعله يشرب قهوته وينتظر الباص لنقله إلى الجامعة معاً كأنه على شرفة منزله ينظر إلى المارة ويراقبهم ، حتى أنه أصبح يخرج أبكر من موعده ليدردش قليلاً مع أبو عامر ويفتح له قلبه بعد أن أصبحا صديقين .
بعد أن ودعنا خليل لنتركه يكمل فنجانه على الشرفة مع زمامير الباصات والسيارات بدلاً من زقزقة العصافير ، توجهنا نحو أبو أحمد الذي كان قد بدأ بأخذ مكان على رصيف قريب من موقف باب شرقي يبيع خضاره وفاكهته الطازجة والتي اشتراها لتوه من سوق الهال ، كما قال ليساعد نساء المنطقة كي لايقطعن مسافات كبيرة بحثاً عن الدكاكين والبقاليات ، فهو يأتي لهن بما يردن بسعر أرخص من المحلات العادية فيسترزق ويساعد بآن واحد .

البسطات " مقامات "
وكحال أبو أحمد سترى الكثير من النساء الريفيات والأطفال قد حملن تحويشة الحديقة في منزلهم إلى الرصيف ليبيعوا خضارهم وفاكهتهم أثناء المرور من باب توما إلى برج الروس صباحاً ، لتصل إلى سوق الملابس والأحذية الذي أخذ الرصيف الفاصل عن مستشفى الفرنسي مكاناً له والذي تجمع حوله عدد كبير من العساكر للشراء أو مجرد السؤال عن السعر الذي عادة ما يكون متواضعاً مقارنة مع السعر الذي يضعه الروسيون الذين يفترشون بضاعتهم في نفس المكان ليلاً والتي تكون نخبوية قد لا يقدر المواطن العادي شراءها ، لكنها تكون أجمل وأذوق من تلك الموجودة على البسطات العادية كما أخبرتنا السيدة سوزان التي كانت تنتقي كنزة طلبت السيدة الروسية ثمنها 1500 ليرة سورية فتركت السيدة الكنزة والتفتت إلينا لتقول و الله بشتري كنزة من محل أو ماركة بأرخص من هيك .
حال الروسيين ليس بأفضل من حال الصينيين قبل أن ينظموا بسطاتهم تحت اسم المعرض الصيني أو السوق الصيني والذين كانوا لا يتنازلون بالرد عن ثمن الشيء ويكتفون بجمل ربما لم يحفظوا غيرها بدك تشتري ولا لأ.

بسطات الإكسسوار الأكثررواجاً
وإلى جانب بسطات الملابس والأحذية وفي أماكن متعددة من دمشق تقف بسطات تكمل اللوك وتحسنه ، فتجد بسطات الإكسسوار والنظارات الشمسية والماكياج والعطورات والتي تلقِ رواجاً كبيراً خاصة عند الفتيات حسب صاحب إحدى البسطات الذي أخبرنا أن كل زبوناته يفضلن الشراء من عنده على المحلات العادية لأنه يبيع بسعر أرخص ونفس البضاعة فالجميع يبيع المقلد إذ ليس هناك نظارة شمسية أصلية ثمنها أقل من 2000 ليرة سورية والذي يقنع الزبونات بأن النظارة بـ 500 ليرة سورية أصلية فهو كاذب وبضاعته نفس البضاعة التي يبيعها هو إلا أن سعره أقل بكثير ، وأنه سيعمد إلى توسيع مجاله ليشمل الملابس الداخلية والجرابات فهي تلق رواجاً كبيراً عند النساء والفتيات وهن عادة ما يشترين ما هن لسن بحاجة إليه .

بضاعتنا مكفولة .. ولكن بكلمة !!
وإذا استطاع الشخص أن يكسي نفسه من الخارج من على الرصيف فإن كسوة منزله مؤمنة مع بسطات العصرونيات والتي تجد فيها جميع ما تحتاجه من أدو ات للمطبخ كالكبجاية وقشارة البطاطا والصحون والكاسات والطناجر والمقالي حتى اسفنجات المطبخ والحمام وبطاريات الساعة وأجهزة التحكم والملمع والمعقم كما أنك ستجد جميع الأدوات الكهربائية باستثناء البراد والغسالة فقد تشتري مكواة وسيشوار وخلاط وعجانة وجهاز هاتف لاسلكي وعادي من عند نبيل ولا نعلم إذا كان اسمه الحقيقي والذي يقف في الشارع العام بجرمانا ويبيع الأدوات الكهربائية مؤكداً أنها مكفولة ولا يذكر أن أحد زبائنه قد أعاد له قطعة اشتراها من عنده ، و أن المواطن يستطيع أن يوفر أكثر بالشراء من عنده كعمولة المحل والكفالة ، فالكفالة عنده هي الكلمة والتي عادةً ما تكون كلمة رجال !!
" الديكور والفرش والمحابس " من عنا
وبعيداً عن نبيل وبسطته فإن أبو نديم يستطيع أن يساعدك في فرش بيتك ودوكرته عن طريق تحفه الفخارية التي رتبها بشكل متناسق وجميل والتي تنوعت أشكالها وأغراضها من تمثال كبير لفينوس إلى أيقونات السيدة العذراء ، وإطارات الصور والجرار والتماثيل الجميلة بأ حجامها المختلفة ، ويدافع أبو نديم عن بضاعته قائلاً أن الفن والجمال لا يجب أن يكون حكراً على أحد وإذا لم يكن المرء يملك المال هذا لا يعني أنه لا يستطيع تزيين بيته بالتحف الجميلة غير الغالية نسبياً مقارنة مع تلك التي تشتر من المحلات الخاصة بالتحف والتماثيل والتي قد يصل ثمنها إلى آلاف بل عشرات الآلاف من الليرات .
وإذا ما انتهيت من اقتناء التحف فإنك تستطيع أن تقصد جار أبو نديم الذي يبيع السجاد على الرصيف المجاور لتختار ما يلائم بيتك من حيث اللون والحجم وما يلائم ميزانيتك من حيث النوعية لتذهب مباشرة إلى سوق الحرامية وتنتقي طقم الكنبايات أو غرفة النوم التي تناسبك من على أرصفته كذلك بإمكانك بطريقك أن تغير جهاز موبايلك من بسطات السوق وتعود لتشتري المحابس في حال قررت أن تتزوج من أقرب بسطة للخواتم و التي لن تفرقها عن الذهب من حيث اللون أو الموديل .

" ثقافة الرصيف " أو " من على الرصيف "
وفي حال قرر المواطن السوري أن يقف نفسه قليلاً فما عليه سوى التوجه إلى منطقة جسر الرئيس والبرامكة ليجد على أرصفتها جميع أنواع الكتب المعروفة وغير المعروفة ، الجديدة والمستعملة ، لتساعده على ملئ أوقات فراغه بشيء مفيد كما أخبرنا عبد الله طالب صحافة سنة ثالثة فهو يشتري بعض الكتب من هذه البسطات وعلى الرغم من أنها لا تكون بالمستوى المطلوب غالباً إلا أن بعضها مفيد وعلىالأقل تساعده بملء يومه بالقراءة بدل التسكع وتضييع الوقت ، كما أن بعض هذه البسطات تؤمن الكتب الجامعية المستعملة مما يوفر بثمنها .
ولعل الحكومة قد أدركت مدى تعلق السوريين بالبسطات وأهميتها في حياتهم إذ سمحت بإنشاء سوق خاص بالبسطات بالقرب من منطقة الزبلطاني لتنظيمها بعد أن عجزت عن إلغائها ، لأن الحياة على الأرصفة بدأت تصبح شيئاً من الحياة اليومية للبعض ، إذ بدؤوا يألفون أصوات الباعة والأغاني المنبعثة من بائعي الكاسيتات والسيديات على الأرصفة ، وروائح الفلافل المقلي على الرصيف والذرة المشوية في مكان آخر ، وأصبحت بسطات العوجة دليلاً على قدوم فصل الربيع وبسطات الفول النابت وسيلة لدرء برد الشتاء وبسطات الناعم والمشمش الهندي دليلاً على قدوم شهر رمضان حتى أنه أصبح بإمكاننا شراء خروف العيد من على الرصيف بالقرب من سوق الهال القديم والبحث عن عمل بالجلوس على أرصفة جرمانا وجديدة عرطوز بانتظار أحد يريد عتال ، أو عامل .
ويرى البعض أن هذه البسطات ما هي إلا الدرس الأول الذي بدأ السوريون تعلمه من دروس الشارع بانتظار أن يأتي اليوم الذي قد ينتقلون إليه نهائياً ، وتتحول حياتهم إلى مجرد بسطة في الشارع .
راما الجرمقاني

شطارة العرض تحدد سعره و جماله

"البنطال" الشعبي حين يصل إلى "جمهور" آخر في أسواق أخرى يصبح "نخبويا" يشبه زبونه

لا يستطيع زائر حي باب توما بدمشق حين ينتقل مشيا إلى حي الغساني مروراً ببرج الروس و القصاع و الفرنسي أن يفلت من إغراء واجهات العرض الممتدة على طول الطريق بألوانها المتنوعة و طريقة عرضها المنسقة التي قلما تتشابه بين محل و آخر .
الذي يمر قد لا ينتبه إلى ارتفاع سعر الألبسة و تحديدا "البنطال" المعروض مع كل عدة أمتار يقطعها زائر المكان باتجاه" الغساني" التي تتجاوز في بعض الأحيان محاله القفز من مئات الليرات إلى آلاف الليرات لناحية البيع محققاً رقماً قياسياً يضاف إلى الأرقام القياسية التي سجلتها غرائب المجتمع السوري و تناقضاته فيما تعلق بالملبوسات من بنطال أو غيره .
و لكن ما السر الذي يجعل سعر البنطلون الجينز النسائي يتغير من منطقة إلى أخرى ؟ما الذي يدفع بالمستهلك لدفع ضعف ثمن البنطلون في بعض الأحيان مع أنه يمكن الحصول عليه نفسه بسعر أرخص في منطقة أخرى ؟ما الفرق الموجود بين بنطلون الشعلان و بنطلون الدويلعة ؟ و هل هناك أعباء يتحملها أصحاب المحلات في المناطق" الراقية" تختلف عن محلات المناطق" الشعبية"؟ كل هذه الأسئلة حاولنا رصد إجاباتها في هذا التحقيق؟
الزبون هو صاحب القرار
في محله الصغير في باب توما استقبلنا الشاب "أمير" ليطلعنا على سر اختلاف السعر قائلاً :" منطقتنا تعتبر منطقة شعبية و فيها متسوقين من كافة المناطق لذلك يجب أن تلبي متطلبات و أذواق كل الناس مع مراعاة دخلهم المادي ،وكثيراً ما تتشابه بضائعنا لذلك تكون الزبونة هي من يحدد السعر من خلال عملية المفاصلة".و تابع أمير إن من يشتري من عندنا هم ذوي الدخل المحدود لذلك يلجؤون إلى عدم التقيد بالسعر الموجود على البطاقة و يقومون بتحديد السعر الذي يناسبهم و يلحون حتى نوافق عليه و نرضى بربح قليل يقترب من رأس المال مضيفاً إلى أن الزبائن في المناطق"الراقية" لا يساومون بل يدفعون مباشرةً حتى لو طلب منهم دفع الضعف و هذا هو الفرق و هذه هي الحقيقة.وأشار صاحب المحل إلى أنه يمكن أن يقول البعض أن جميع المحلات تدفع ضرائب واحدة و رسوم واحدة في كافة المناطق و أنا أقول ليس هذا هو سبب الاختلاف بل إنما حجم الطلب وكمية العرض، لافتاً إلى أن متوسط سعر البنطلون الجينز النسائي/900/ ليرة سورية في باب توما.
في مكان قريب جداً من محل أمير يقع محل "ساري" الذي اشتكى أيضاً من المفاصلة و المساومة أثناء الشراء و التي ترهق الزبون و البائع و تساءل عن سبب عدم تحديد سعر الملابس من قبل التموين فذلك يخفف كثيراً من معاناة البائعين اليومية و قال:"كثيراً ما نضطر إلى الاكتفاء بربح قليل جداً ،وربما هذا لا يؤثر علينا كثيراً و لو كان حجم الطلب أكبر و لكننا يجب أن نراعي ظروف الناس و مستوى دخلهم لأن محلاتنا موجودة في منطقة شعبية " .و أخبرنا ساري أن البائعين في المنطقة قد عانوا كثيراً بعدما أصدرت وزارة التموين قراراً بمنع بيع القطع الأجنبية إلا بترخيص مما يجعل سعر القطعة الأجنبية يرتفع إلى الضعف إذا لم يكن أكثر و هذا يعيق عملية بيعها لأن الزبون لن يتقبل سعرها الذي لا يتناسب مع ميزانيتهم و دخولهم .كل مكان له زبائنه ..و الغالي سعره فيه
بعد عدة أمتار و تحديداً في منطقة حي الفرنسي وصلنا إلى محل "وليد" الذي أكد لنا ما قاله زميلاه حول أن الزبون هو من يحدد السعر، و قال:"لو رضيت أن أبيع بسعر باب توما فلن توفي معي !!".و اخبرنا وليد قائلا :"صحيح أن سعر البنطلون يختلف من منطقة إلى منطقة و أن الزبونة تستطيع شراء نفس البنطلون بنصف سعره تقريباً من جرمانا أو الدويلعة و أن كثير من زبوناته قد عاتبوه بهذه المسألة و لكنهم عادوا ليشتروا من عنده لأنهم من المنطقة و تعودوا على بضاعته حسب ما أخبرنا ،مشيراً إلى أن متوسط سعر البنطلون في المنطقة هو /1500/ ليرة و هناك بنطلونات بـ/3000/و بـ/4000/.".
وشرح لنا وليد كيف أن سعر المحل يختلف و أجرة استثماره شهرياً، و أن كل ذلك يلعب دوراً كبيراً في تحديد الأسعار، فثمن المحل في منطقة الفرنسي يبلغ /25/ مليون ليرة سورية و أجرة تضمينه لمستثمر تقدر بـ/100/ ألف ليرة شهرياً لذلك لن يستطيع البائع في الفرنسي تحصيل مصاريفه و تعويض النفقات إذا باع بسعر جرمانا التي يبلغ سعر أحسن محل بأفضل موقع فيها حوالي /3- 4/ ملايين و استثماره الشهري /10/ آلاف ليرة سورية .و أضاف أن البائع في المناطق" الشعبية" يكتفي بربح /100-200/ ليرة في البنطال الواحد أما في المناطق "الراقية"فيحتاج البائع إلى ربح /300-400/ ليرة حتى يسمي ذلك ربحاً.أما محمد الذي يملك محلاً في منطقة الشعلان فقد أخبرنا عن مسألة الاستيراد في الملبوسات و التي قد يرغب بها بعض زبائنه و لكن المشكلة التي تواجهه هو قيام بعض المحلات في بعض المناطق بالاستيراد غير النظامي، فيصبح سعر البنطلون النسائي عندهم /1000/ ليرة برأسماله لأنهم لا يدفعون أجور شحن و رسوم جمارك و غيره من النفقات و هنا يتم بيعه بـ/1500/ ليرة و يكون البائع قد ربح /500/ ليرة أما في الاستيراد النظامي الذي يتعامل معه أصحاب المحلات في المنطقة فإن البنطلون النسائي الجينز يكلف /1500/ ليرة برأسماله و من المؤكد أنه سيتم بيعه بسعر أغلى من تلك المناطق لأن تكلفته كانت أغلى .و أشار محمد إلى أن المحلات في هذه المناطق تقوم بعرض موديلات مبتكرة و جديدة مما يجعل ثمنها أغلى لندرتها أما في الأسواق " الشعبية" الموديلات المكررة تجعل ثمن القطعة يبخس لأنها"تنطرش" في الأسواق و نرى جميع الناس يريد قطعة مميزة عليه أن يدفع أكثر " و الغالي سعره فيه".و لكن محمد قد أكد على أن الأسعار في جميع الأسواق حتى "الشعبية" منها لا تتناسب مع رواتب الناس و لكن لكل مكان زبونه.
و إذا كانت الأسعار في الأسواق لا تناسب الدخل لدى العائلات التي تقصد شراء البنطال، فثمة باعة لهم وجهات نظر أخرى و كشفوا أنه كثيرا ما يكون مصدر البنطال واحد، أي يجلب من معمل واحد على سبيل المثال من حلب أو دمشق و لكنه يباع بسعر مرتفع في أسواق راقية و بسعر رخيص في أسواق شعبية على أطراف دمشق.
تلك الفكرة يكشف عنها "خالد" و هو صاحب أحد المحال لبيع الألبسة النسائية في حي الحجر الأسود يقول:" في سنوات مضت كان عندي محلا لبيع الملابس النسائية في الحجر الأسود، و كنت أبيع البنطال النسائي بنحو 300 ليرة أو 400 ليرة سورية، و ثمة شابات كن يشترين من عندي، و بعد ذلك استثمرت محلا في شارع الحمراء بالطبع قبل أن أعود منذ أشهر إلى الحجر الأسود ،و أقسم أني كنت أبيع ذات البضاعة، و لكن السعر أختلف و كنت أبيع ذات البنطال بـ800 أو 1000 ليرة، و أحيانا لزبائني الذين كانوا يشترون من عندي في الحجر،و لكن عقدتهم و حبهم للحديث عن أنفسهم حين يسألون من أي مكان اشتريت البنطال..يقولون ..هذا من الحمرا..بالتأكيد غير بنطال الحجر الأسود حسب ما يتحدثون هم!! ، و أنتم تعرفون أنه ذات البنطال" .
على الأقل اسمها ماركة
"أشرف" يملك ترخيص لشركة ألبسة عالمية قال لنا :" الإقبال واحد و من جميع الفئات و الطبقات و لكن يبقى لدينا بعض الزبائن الدائمين و هناك من يتردد علينا بالمواسم".و يتابع أشرف حديثه معنا ليخبرنا أن هناك كثير من الناس الذين يفضلون الماركات و خاصة الشباب و الذين يعتبرون لبس الماركات تباهياً ، يشير أشرف إلى أن الناس أصبحت أكثر إقبالاً على الشراء من الماركات في ظل الغلاء الغير طبيعي في الأسعار و معظم الناس يقولون بما أنهم سيدفعون مبالغ مرقومة ثمناً لبنطلون واحد فلا ضرر أن يكون هذا البنطلون يحمل علامة ماركة مشهورة و السعر تقريباً واحد.و تقول إحدى الفتيات التي تعمل عند اشرف في المحل:"أرتاح أكثر في العمل هنا فالسعر الموجود على البنطلون هو الذي سيتم دفعه دون مفاصلة و مكاسرة من الزبونات مما يريحنا قليلاً" و تضيف لقد عملت في السابق في محل لبيع الألبسة في مخيم اليرموك و لقد كنا نضطر أحياناً إلى أن نبيع براس المال حتى نتخلص من الزبونات اللحوحات و اللواتي كن يدفعن بنا إلى التنازل عن أكثر من /500/ ليرة في السعر لذلك كنا دائماً نزيد في السعر حتى نضمن ربحنا القليل و الذي لا يقدره الناس مقارنةً مع الربح في مناطق أخرى.و أخبرتنا أن كثير من الزبونات في المحل الذي تعمل به حالياًً يقولون أنهن لن يدفعن ثمن بنطلون جينز عادي /2500/ ليرة سورية و لكن عندهم في المحل يدفعون ذلك المبلغ و يقولون:" على الأقل اسمها ماركة".التموين يهتم بالمواصفات و يغفل السعر
"أحمد" صاحب إحدى ورشات الخياطة لتصنيع البنطلون قال:"يتحكم العرض و الطلب بعملية بيع البنطلون و تسعيره ، و بشكل عام إذا ما كان المعمل كبيراً و إنتاجه كبير يرفع السعر أما إذا كان المعمل صغيراً يمكن أن يخفض السعر مع أن القماش ذاته و ربما الموديل ذاته و السوية ذاتها في الصناعة"و أضاف أن المعمل الكبير هو الذي يتحكم بالسعر أما المعمل الصغير فيتحكم صاحب الربح به ، و كشف لنا احمد إلى انه يتم في بعض الأحيان تغيير كرت السعر إذا ما عرفت الجهة التي سيتم بيع السلعة فيها أي إذا كانت ستباع في سوق شعبي أو راقي و التموين لا يتدخل بهذه العملية لأن مهمته هي مراقبة النوعية و مطابقة مواصفات البنطلون لما هو مكتوب على الكرت دون النظر إلى السعر و من هنا يأتي التلاعب.
بكل الأحول يختلف البنطال من نواح عدة منها جودة الصناعة و القماش و اختلافه و هذه نقطة مهمة، و لكن المجتمع في كثير من الأحيان يعكس على شرائه بشكل أو بآخر "ثقافته" حين يقع الكثيرون في فخ التاجر، بأن "بنطال" الحي الشعبي غيره ذلك الذي يباع في حي أو سوق راق، مع الإصرار على عدم اكتشاف لعبة البيع، و خاصة إذا كان المعمل ذاته الذي يصنعه، و لكن أثناء التوزيع يحدد السعر حسب رأي بعض الباعة،و السؤال لا بد منه هنا هل "البنطال" حين يصل إلى "جمهور" صاحب دخل محدود يصبح "شعبيا" و في أسواق أخرى يصبح "نخبويا" يشبه زبونه؟
راما الجرمقاني

نساء سوريات يعملن في "الظل":

"القبيسيات" يحملن راية الدعوة بتأييد من الدين "الرسمي" و حذر من الدولة "العلمانية"!!


عندما قررت "لينا " ارتداء الحجاب، لم تكن تعلم أن طريقة ربطه ستضايق بعض الفتيات في الجامعة، وأن عقد حجابها بطريقة تبقيه منفوخاً قليلاً من الأمام سيجعلها تنتمي، دون علمها، إلى جماعة نسائية متدينة في سورية تسمى "القبيسيات".
"لينا " الطالبة في كلية الإعلام بجامعة دمشق، قررت تغيير طريقة ارتدائها للحجاب بعد أن قامت إحدى الفتيات "القبيسيات" بتنبيهها خلال وجودها في مصلى الجامعة إلى أنها إذا أرادت إبقاء حجابها بهذه الطريقة فعليها أن تلتزم "بتوابعه"، من حيث لونه الأبيض و ارتداء "المانطو" الكحلي، كما عليها أن تلتزم بالدروس الدينية التي يأخذنها وبتعاليمهن، محذرةً إياها بأن حجابها لوحده لن يشفع لها مع ارتدائها الجينز و الكنزة "العريضة" فوقه.
أخبرتنا أنها ليست الوحيدة التي تتعرض إلى ما اسمته "مضايقاتهن" في الجامعة، حيث أنهن يقمن بتنبيه الفتيات غير المحجبات إذما دخلن مصلى الجامعة ويحاولن تذكيرهن دائماً بأنهن لا يطبقن الدين كاملاً، وأن أجرهن ليس كامل.
"القبيسيات" مصطلح تردد كثيراً في الأوساط الاجتماعية و السياسية السورية مؤخراً..قصد به جماعة من النساء اللواتي يتبعن الداعية السورية "منيرة القبيسي" وينتشرن في دمشق خصوصاً وباقي المحافظات السورية و كذلك بعض الدول العربية حتى أنهن وصلن إلى بعض العواصم الأوروبية و بعض الولايات الأميركية.
تضاربت الآراء الدينية كثيراً حول توصيف منهجهن الديني بشكلٍ محدد، بين من يتهمهن بتشكيل "تنظيم سري خطير" وبين من يشيد بدورهن الديني الدعوي، في "فعل ما عجز عنه الرجال"، إلا أنهن، وحسب تعريف بعض رجال الدين السوريين الكبار يعتبرون حركة دينية وسطية تلتزم بمنهاج أهل السنة ولا تتبنى منهجا فقهيا معيناً.
ولم يكن رجال الدين فقط هم من اختلفوا حول طبيعة هذه الجماعة النسائية، إذا صح التعبير، إذ أن السوريين وخاصةً السوريات كانت لهم مواقفهم المختلفة منهن تراوحت بين السلب و الإيجاب و الحياد حسب طبيعة الموقف الذي جمعهم بهن.
موقف "لينا" المائل إلى السلبية منهن والناتج عن اصدامها معهن، أكدته "نيفين" التي روت لنا كيف أن بعض الطالبات "القبيسيات" قمن بطردها من مصلى الجامعة بعد أن أسمعنها كلاماً جارحاً شكك بإيمانها و تدينها، لأنها لا ترتدي الحجاب، وأخبرتنا أنهن دائماً يحاولن مساعدة بعضهن، و التكتل مما يمنع الطالبات الأخريات من الانخراط في "شلتهن" الجامعية، والتي غالباً ما تكون مؤلفة من فتيات، مع أنهن يتعاملن مع الشباب ولكن بحدود، وأنهن يعملن عن طريق ذلك إلى استقطاب الفتيات الأخريات اللواتي يلمسن فيها أنها ستكون جزءاً منهن، والتي يخترنها على أساس غير واضح لنا على الأقل "نحن غير القبيسيات".
وتضيف "نيفين" "القبيسيات في كليتنا يتعاملن مع باقي الطالبات عند الضرورة فقط، ويقبلن أي مساعدة نقدمها لهن، لكنهن لا يبادرن بالمساعدة، ولا يؤذيننا أيضاً، فهن متكتلين يفسحن المجال للتعامل مع خارجهن بحدود، ولكن إذا ما قاموا بالحصول على توقعات أسئلة لمادة ما، أو أسئلة "الأتمتة" التي تتكرر سنوياً ولا توزع للطلاب، فإنهن يرفضن إعطاءها لغير القبيسيات، و يتكتمن عليها بسرية شديدة".
كلام الفتاتين تشابه مع كلام فتيات عديدات احتككن بشكل مباشر وغير مباشر مع "القبيسيات" ليس في الجامعة فقط، بل في مؤسسات و دوائر و شركات أخرى سواء كانت حكومية أو غير حكومية، إذ أكدت معظم اللواتي تحدثن إليهن، على التكتل الشديد في التعامل بينهن، وعلى أن أغلبهن لا يهاجمن المختلفات عنهن، ولكنهن يحاولن بشكلٍ أو بآخر إلى دعوة الفتيات ليصبحن منهن إذا ما استطعن، أو إذا انطبقت المواصفات التي وضعنها للفتاة المناسبة على إحداهن لتصبح "قبيسية" حسب ما قال البعض.
عشرات النساء السوريات اللواتي توجهن لهن بالسؤال عن القبيسيات و ما الذي يعرفنه عنهن، إجاباتهن تراوحت بين معلومات "ضبابية" وغير واضحة، وأخرى مشوهة تقترب من الأساطير عن أنهن ساحرات و ما إلى ذلك.. ولكن السؤال الذي أرادت الأغلبية التوصل إلى إجابةٍ عنه هو: من هن "القبيسيات"؟.. ولماذا هذه السرية المنسوجة حولهن؟.. لماذا لم نر حتى اليوم "قبيسية" واحدة تحاول الدفاع عبر وسيلة اعلامية مثلا عن هذه الجماعة على الرغم مما قيل لتشويه سمعتهن؟.. لماذا "أغمضت" الدولة عيونها عنهن وقد أصبحن شبه تنظيم وهذا أمر ممنوع في سوريا؟..
أسئلةٌ كثيرة طرحت علينا وروايات مختلفة سمعناها، بعضها كان معقولاً و الآخر غير منطقي.. وطلب منا نفيها أو إثباتها..لذلك حاولنا العمل على إيجاد إجابة من خلال دخولنا إلى أماكن وجودهن حتى المساجد التي يترددن إليها، وسؤال جميع الأطراف المتابعة لنشاطهن.

فُصلنا.. لأننا سألنا كثيراً!!

بعد محاولاتنا في البداية التحدث إلى إحدى "القبيسيات" وجها لوجه، سواء من العضوات الجدد أو القديمات، ورفضهن القاطع للتحدث مع الصحافة، توجهنا للحديث مع بعض الفتيات اللواتي كنا منتميات "للجماعة"، لكنهن تركن، وكانت تلك المحاولة في بداية عملنا، حيث أخبرتنا "رشا" أنها عندما قدمت من السعودية للدراسة في الجامعات السورية وضعتها أمها في بيت للطالبات تديره صديقة والدتها، ولكنها فوجئت بالطريقة التي يعشن بها، حيث يستيقظن مع آذان الفجر، فيتوضأن ثم يصلين، وبعدها يقرأن القرآن، وتبدأ كل شابة منهن باستلام مهامها المنزلية، حسب الجدول الذي قد وزع مسبقاً بما يتناسب مع دوام الطالبات في الجامعة.
و تتابع "رشا" شارحة بأن طريقة العمل في ذاك المسكن تختلف عن الطريقة الشائعة عند الجميع، فالفتيات يلبسن داخل المنزل البنطال القطني و القميص نصف كم وفوقه قميص نوم كم طويل صيفاً شتاءً، ويضعن غطاءً خفيفاً على الرأس، كما أنهن يكنسن المنزل بعدد مرات معينة و يجلين الصحون كذلك، حتى يتم تطهيرها تماماً، كما أنهن يغسلن الرز بطريقة معينة ليصبح طاهراً.. كل ذلك في جميع تفاصيل حياتهن، وأن المنزل لا يحوي تلفاز أو راديو أو أي شيء و أن صوت تلاوة القرآن هو الصوت الوحيد الذي يسمح سماعه، وأن الفتيات عليهن أن يعدن في وقت محدد لأن المنزل لا يستقبلهن بعد ذلك، أشبه بالسكن الداخلي لكن مع قوانين صارمة، وأن أغلب الفتيات في هذا المنزل هن من السوريات اللواتي يسكن أهلهن في الخارج، وأن تعاليم القبيسيات هي التي يطبقنها، ليصبحن بذلك قبيسيات سواء أرادوا أو لم يردن، لأن عدم التزامهن بالتعاليم يعني عدم بقائهن في المنزل، والأهل لن يرضين أو لن يجدوا لابنتهن مكاناً أصلح من هذا يتماشى مع العادات و التقاليد و حتى تعاليم الدين، وتركز القبيسيات على التأكيد على أن المرأة لا تشبه الرجل، ويبعدنهن عن المبادئ التي ينادى بها من مساواة بين الجنسين و غيرها...
وتضيف "رشا" و التي كانت ترتدي "جاكيت" بني اللون و بنطال الجنيز، أنها كانت تلاحظ أن المعلمة المسؤولة عن المنزل، تعامل بشيء من القداسة، وأن أوامرها تنفذ بحذافيرها من دون نقاش، وأن الفتيات اللواتي كن يسكن المنزل من الأغنياء ولم يكن هناك من الطبقات الفقيرة، على الرغم من أجرة المنزل الرمزية التي كانت تؤخذ مقارنة بالآجارات، وأنها عندما سألت عن سبب هذا الوضع، قوبلت باستهجانٍ من المعلمة، ثم طلب منها المغادرة بعد أن أعلنت أنها لا تريد أن تقوم بما يفعلن من طقوس " جديدة "خارجة عن الفروض الدينية، و بعد ذلك تصمت رشا و تختم حديثها قائلة:"حاولوا أن يلغوا عقلي و يوقفوه عن التفكير!".

لا يقتصر تواجد القبيسيات في مجال التعليم على امتلاكهن بيوتاً لسكن الطالبات، يفرضن فيها عقيدتهن و شروطهن الخاصة، و حسب احصائيات شبه رسمية حصلنا عليها، تمتلك "القبيسيات" نحو 40 مدرسة تتبع بشكلٍ أو بآخر للشيخة منيرة القبيسي من أصل نحو 80 مدرسة خاصة، تنتشر في جميع الاحياء الدمشقية، تعمل فيها أكثر من 75 الف امرأة ومربية "قبيسية"، تقع في أرقى مناطق مدينة دمشق، تدرس منهاج وزارة التربية السورية، لكنها تركز على حصص التربية الدينية بشكل أكبر ويتم من خلال هذه المدارس دعوة الطالبات الجدد، ممن تقرر المدرسات أنهن يصلحن ليكن منهن.
ومن أشهر مدارسهن حسب تلك الإحصائيات مدرسة "البوادر" في منطقة كفرسوسة وهي أكبرها، ومدرسة "دار الفرح" في منطقة المهاجرين و"دار النعيم" و"مدرسة عمر بن الخطاب" في المزة و"عمر عبد العزيز" في الهامة و"دوحة المجد" في المالكي و"البشائر" في المزة.
وعن طريق هذه المدارس استطعن إقناع الشابة "لين" بالانتساب لهن، إذ أخبرتنا أنها انتسبت إلى القبيسيات بإرادتها بعد أن دعتها معلمتها في المدرسة هي و صديقتها لحضور دروس الدين في منزلها، وأن المعلمة أخبرتها أنها ذكية و جميلة و عليها أن تشكر الله أكثر و تتقرب منه لأنه وهبها هذه الصفات، تقول "لين" :"عندما دعونني كنت في مرحلة عمرية يحاول كل إنسان فيها التمسك بالدين و المبادئ، لذلك وجدت فيما كن يقلنه شيئاً عظيماً، وأحسست بشيءٍ من الرهبة عندما كنت أدخل دروس الدين في منزل معلمتي، التي كان لها وجهٌ ملائكي، وطريقة كلامٍ رائعة، حتى أن حبي لها هو الذي دفعني لحضور الدروس أكثر من الدروس نفسها، فلقد كنت متعلقة بها بشكل مرضي، وأن كل ما تقوله منزّل ولا أخالفه".
وتصف لنا أنها عندما دخلت منزل معلمتها في الدرس الأول لم تكن المعلمة هي التي تعطي المحاضرة، بل معلمة أخرى، كانت تجلس على كرسي أعلى بقليل من الباقي، وتقوم بإعطاء فتاوى، وتحلل و تحرم وتخبرنا:"كل ما كان يشغلني أن معلمتي تستحق المكان أكثر من الأخرى، وتفاجأت عندما سمعت المعلمة الجديدة تقول أن علي ارتداء الحجاب، عندها قالت معلمتي أنني سأرتديه عما قريب، عندما أصبح جاهزة لم افهم قصدها و سألتها كيف؟ فلم تجب ثم بعد الدرس سألت معلمتي عن كل ما قالته المعلمة الكبيرة، ولماذا تحدثت عن كيفية تطهيرنا لأنفسنا و ثيابنا بدل أن تحدثنا عن أمور الدين الأخرى، لم تجب المعلمة و بعد جلستين رافقتهما أسئلتي المتكررة قالت لي المعلمة أن لا أذهب بعد اليوم للدروس لأنها ألغتها، ثم عرفت أن الدروس ما زالت مستمرة من صديقتي، فكرهت المعلمة و كرهت القبيسيات وأقنعت أمي أن تنقلني من المدرسة".
وتضيف الشابة أن المعلمات القبيسيات لسن متعمقات بأمور الدين كثيراً وأن أي شخص عادي بثقافة دينية عادية إذا تناقش مع إحداهن أربكها، وأنهن يقضين جلساتهن بإعطاء الفتاوى لقشور الدين و الأمور البسيطة ولا يتطرقن للأمور العميقة مخافة الخطأ، وأنهن شديدات الاحترام للمعلمة الكبيرة و أن ما تقوله مقدس حتى أنهن يتمسحن بها أحياناً "للبركة"ويقبلن يدها، وأن لديهن طريقة إقناع مذهلة و أسلوب و قوة شخصية تجذب الفتيات، كما يعملن على زرع هذه الأمور في نفس الفتيات القبيسيات جميعاً، لكن دون استخدام هذه القوة في الشخصية مع المعلمة أو مناقشتها أو معارضتها لأن "من قال لشيخه لم ..لم يفلح أبداً" حسب قناعاتهم، وهي كي لا تعرض الطالبة شيختها للإرباك، في حال سألتها سؤال، وعجزت عن الإجابة عليه، لثقافتهن الدينية الضحلة.

أكثر من أربعين مسجدا يدرسون فيها و يمكن حضور السافرات

تشجع "القبيسيات"على العمل و أخذ الفرص و الخروج إلى المجتمع و تقوية الشخصية من أجل التميز من الناحية العملية، وهن مخلصات في عملهن كثيراً، ويعملن بكل تفانٍ، أغلبهن يمتلكن شخصية مؤثرة و جذابة تجعل الأخريات يتعلقن بهن، ولديهن قدرة هائلة وأسلوب قوي على الإقناع، خاصةً الآنسات منهن.
مما جعل أغلب "القبيسيات" الكبيرات "عوانس" غير متزوجات بسبب المبادئ التي يتربون عليها من قسوة و انضباط و حزم في كل الأمور و الاهتمام بالدين و التعليم، الأمر الذي يبعدهن عن مسألة الزواج، أو أن هذه القوة الزائدة في الشخصية تجعلهن يستصعبن مسألة الخضوع لأوامر زوج مهما كان.
و تشير معلومات حصلنا عليها من جهات شبه رسمية إلى ارتفاع نسبة الطلاق في أوساطهن بسبب انشغالهن عن بيوتهن، أو لأن الآنسة، أحياناً قد تفسر بعض التصرفات التي يقوم بها أزواج البعض تفسيراً يبعدهم عن الشرعية، مما يتوجب على "القبيسية" ترك زوجها، لأنه لا يحل لها أن تبقى مع زوج غير متدين، فالآنسة تعرف أكثر منها، وكلامها "مقدس" لا يخالف، مهما كان، حتى لو طلب "الموت" من الطالبة.
و أضافت تلك الجهات شبه الرسمية إلى أنهن قد يساهمن في تدبير زيجات عديدة لطالباتهن، حيث يخترن من يروه مناسباً لإحدى الفتيات، ويحاولن في كثير من الأحيان الحفاظ على النسب العريق أو الميراث من خلال هذه الزيجات، ويعود لهن الفضل في كثير من الزيجات التي حصلت بين العائلات الراقية و المعروفة في دمشق، منذ فترةٍ طويلة، إذ أن تاريخ "القبيسيات" لا يعود إلى فترة قريبةٍ، أي فترة ظهورهن إلى العلن، فتواجدهن أقدم من ذلك بكثير على الرغم من عدم وجود تاريخ محدد لبداية دعوة منيرة القبيسي، وهي من مواليد عام /1933/ ، وبحسب بعض السيدات اللواتي تحدثن معهن ممن هن في عمر "منيرة القبيسي"، لكن دعوتهن في الفترة السابقة اقتصرت على حلقات التعليم في المنازل بشكل سري، كما أنها شملت بنات العائلات الراقية والمعروفة في دمشق فقط، وأن أشهر تلميذات "منيرة" قد أسسوا جماعاتهن الخاصة في لبنان و الأردن منذ زمن و اللواتي عرفن بـ"السحريات" في لبنان نسبةً إلى "سحر حلبي" و "الطباعيات" في الأردن نسبةً إلى "فادية الطباع".
إلا أن فترة ظهورهن بشكلٍ علني، والذي كان منذ ما يقارب الثلاث سنوات، جاء بناءً على طلبٍ من بعض السلطات الدينية المقربة منهن، لكي يخرجن إلى العلن بعد أن ذاع سيطهن، ولتتأكيد على أن دعوتهن دينية بحتة، كي لا يصطدمن مع الجهات الأمنية من جهة، وليخففن من حدة "اللغط" الذي أثير حولهن من جهةٍ أخرى، لذلك عملت هذه الشخصيات الدينية "المقربة من السلطة"، كما يطلق عليها، إلى التوسط عند الجهات الأمنية للسماح لـ"القبيسيات" بالخروج إلى المساجد و إعطاء دروسهن من على منابرها.
واليوم في دمشق هناك أكثر من أربعين مسجداً لـ"القبيسيات" في أحياء دمشق الراقية، من أصل ما يقارب المئة وخمسين مسجد في هذه الأحياء، أهمها جامع "الوزير" في حي المهاجرين، جامع "الأبرار" في منطقة مشروع دمر وجامع "الرحمن" في المزة فيلات غربية.
تعقد "القبيسيات" حلقات تدريس بشكلٍ دوري في هذه المساجد، تدرسُ فيها أكثر من أربعين داعية قبيسية مرخص لهن للعمل في المساجد، ومن أهمهن: "نهيدة طرقجي"، و"أميرة جبريل" شقيقة الأمين العام لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة" أحمد جبريل، و"درية العيطة"، والدكتورة "سميرة الزايد" التي الفت كتاب "الجامع في السيرة النبوية" في عشرة أجزاء وكتاب "مختصر الجامع" في جزأين في منتصف التسعينات. وهناك أيضاً الشيخة "سعاد ميبر" التي تدرس في معهد "الفتح" التشريعي وصاحبة كتاب "عقيدة التوحيد من الكتاب والسنة".
والأمر اللافت إلى أن بعض حلقات هذه المساجد يمكن حضورها من قبل السافرات كالحلقات التي تعقد في جامع "الوزير" والتي دخلناها لحضور أحد الدروس فيها من دون وضع حجاب، فعندما تدخل القاعة لا يمكن أن تسمع سوى صوت قراءة القرآن الكريم، من قبل بعض الطالبات اللواتي وصلن مبكراً، ثم يخيم صمت مفاجئ بعد دخول الآنسة، التي تلقي السلام على الحاضرات، لتعتلي مكانها وتبدأ درسها، تصمت الحاضرات بشكل تام ولا يسمع أي همسٍ جانبي على الإطلاق سوى بعض الصلوات الجماعية على سيدنا محمد أو كلمات مثل آمين..، ويعتبر هذا الهدوء جزءاً من الاحترام للآنسة التي تقوم بطرد أي فتاة تلاحظ عدم إنصاتها الكامل إلى خارج الحلقة.
في الدرس الذي حضرناه كان مخصصاً لتدريس جزءٍ من كتاب "نساء حول الرسول" هو أحد أهم الكتب التي تعتمد القبيسيات في تدريسهن عليه، بالإضافة إلى كتاب "رجال حول الرسول" و"فقه العبادات لـ"درية الخرفان"، وجميعها كتب تباع في أي مكتبة في سوريا، وبعد انتهاء الدرس الذي كان من المستحيل تشتت الانتباه خلاله، ليس خوفاً من الطرد خارج الحلقة، بل لأن أسلوب الآنسة و طريقة إلقائها وقوة شخصيتها تجعل المستمعة تنجذب إلى كل كلمة، ولا تحاول تفويت شيءٍ مما تقوله المعلمة، التي يعكس حديثها الواثق سعة علمٍ و إطلاعٍ ودين، وبعد انتهاء الدرس تبدأ الطالبات بسؤال الآنسة أسئلة مختلفة حول الدرس أو خارجه عن أمور الدين، ولكن الملاحظة الأهم هي أن الآنسة عندما كانت تسأل عن أمر ما إذا ما كان حلالاً أم حراماً، فلم تكن تعطي إجابة فيها اجتهاد عما هو معروف، بعكس ما يشاع عنهن بأنهن يحللن و يحرمن و يصدرن الفتاوى، والاجتهاد في إجاباتها اقتصر على الأمور التي تتعلق بالعبادات و تفسير القرآن الكريم أو بعض الأحاديث الشريفة، خاصةً للطالبات المبتدئات، وكانت تؤكد على تطبيق شريعة الله كما وردت دون أية إضافات، والفتاوى أو النصائح التي كانت تقدمها تتعلق ببعض المسائل الاجتماعية و مسائل الطهارة و التدنيس ...إلخ.
لم نكتف بحضور درس جامع "الوزير" لأنه قد تكون الدروس فيه أكثر اعتدالاً من غيره، نظراً لأنه يسمح بدخوله للسافرات، لذلك ارتدينا الحجاب و المانطو ودخلنا إلى جامع آخر، لحضور حلقةٍ أخرى.
لم تختلف الأجواء العامة للدرس عن سابقه بأي شيء، سواء المادة المدرسة أو الصمت الشديد الذي يخيم على المكان، والذي يوحي بشيءٍ من القداسة للدرس، إلا ان الاختلاف الذي شعرنا به كان من قبل الطالبات الحاضرات في المسجد، واللواتي لم يرحبن بحضور عضوةٍ جديدة إلى حلقتهن، الأمر الذي ظهر من خلال عدم تعاملهن معنا، حتى بعد الدرس، الأمر الذي أرجعناه إلى أنهن جميعاً من "القبيسيات"، كما بدا من زيّهن، ولم نكن كذلك كما كان واضحاً.
لم تكن جميع القبيسيات في المسجد يرتدين اللون نفسه، وإن تشابهت ملابسهن، فلقد كان بعضهن يرتدين الحجاب الأبيض مع "المانطو" الكحلي، وأخريات يرتدين الحجاب الأزرق الغامق مع "المانطو" الكحلي أيضاً، وأخريات يلبسن حجاباً و"مانطو" أسودين، وقليلات منهن، حتى أنهن لم يكن سوى اثنتين مع الآنسة، كن يرتدين السواد ويضعن ما يشبه الخمار والذي كان معقوداً من فوق الفم عند دخولهن.

النظام الصارم.. والاحترام الشديد..أساس تجمعهن!!

وعندما تساءلنا عن سبب الاختلاف في الزي، أخبرتنا إحدى القبيسيات في المسجد، أن الطالبات "القبيسيات" الجديدات يستطعن ارتداء أي لون لـ"المانطو" مع الحجاب الأبيض الذي يعقد من الأمام، إذا كانت صغيرة في السن، و الحجاب الأبيض و "المانطو" الكحلي يعني أن "القبيسية" هي معلمة ولكنها صغيرة بالعمر، ثم بعد أن تتم "القبيسية" مرحلة محددة من التعليم وتصبح على دراية بنواحٍ محددة من أمور الدين و العقيدة وتحفظ أكبر جزء من القرآن الكريم، تستطيع أن تنتقل إلى المرحلة التي تليها أي ارتداء "المانطو" الكحلي والحجاب الأزرق الغامق مما يدل على أنها معلمة ولكنها كبيرة بالسن قليلاً ، ثم تتقدم دينياً و تنتقل إلى الحجاب و "المانطو" الكحليين مما يدل على أهميتها العلمية، وبعدها الحجاب و"المانطو" الأسودين مما يعني أنها "حجة" ويجب أن تكون قد حفظت للقرآن الكريم تماماً، ثم تنتقل إلى مرحلة ارتداء الحجاب المعقود فوق الفم، ولكن هذه المرحلة هي متقدمة جداً والقليلات فقط من يرتدينه، ويتطلب ذلك موافقة من الآنسة الكبيرة، ثم صمتت، فسألناها من تقصد بالآنسة الكبيرة؟، عندها صمتت وقالت لنفسها بصوت مسموع: "الله يجمعني فيها"، ثم استأذنت بتهذيب، وانصرفت.
حاولنا جاهدين التقرب من "القبيسيات" من خلال الحضور المتكرر لبعض الحلقات، ولكنهن رفضن جميع تودداتنا التي قدمناها للتواصل معهن، رافضين الإجابة عن أي سؤالٍ يطرح عليهن سواء بشأن "جماعتهن" أو غيره، إلا أن إحداهن وافقت على الإجابة على بعض أسئلتنا بعد أن نشأت معها علاقة ودية بمضي ثلاثة دروسٍ، فبدأت الشابة تروي لنا القصص الكثيرة عن عظمة هؤلاء النسوة، والأمور الجيدة التي يقمن بها، وأن كيفية تعامل القبيسية اجتماعياً وليس دينياً فقط يؤثر على ارتقاء مرتبتها، فالتي تقوم بجمع التبرعات للفقراء أو تحاول مساعدة المحتاجين بأي شيء ترتفع مرتبتها في الجماعة أسرع من غيرها طبعاً مع إتمامها تعلم الأمور الدينية، كما أنهن يعملن على تحفيظ الأطفال للقرآن الكريم، حتى لو لم يفهموا معناه حالياً فسيفهمونه عندما يكبروا.
وأخبرتنا الشابة أن "القبيسيات" منظمات جداً، وهذا الذي ما زال يحافظ على تواجدهن، كما أنهن يحترمن بعضهن البعض ومراتب بعضهن البعض، فلا تتجاوز طالبة آنستها مهما بلغت من دراية وعلم في الدين، ولا يمكن لآنسة في يوم من الأيام أن تكون طالبة في حلقة إحدى طالباتها، ولكن الطالبة تستطيع أن تصبح آنسة على فئة أخرى، وأن كل آنسة تستخدم أبرز صفاتها لاستمالة فئة محددة، فالتي تتمتع بقدرة على التعامل مع الأطفال تستقطب الأطفال، والتي قادرة على التعامل مع المراهقين تختص بهذه الفئة هكذا حسب قدرة كل واحدة و درايتها و أسلوبها في الإقناع.
وتضيف أن "القبيسيات" يعلمن الفتيات استثمار وقتهن بشكل مفيد، ولا يتوانين عن تقديم أي نوع من المساعدة مهما كانت، المهم هو البقاء معاً و تقوية الإيمان و الدين.
حديثنا مع الطالبات فتح أسئلة جديدة لا يمكن الحصول على إجابتها إلا من قبل إحدى الآنسات، لذلك استمرينا في البحث من أجل الوصول إلى إحداهن، حتى استطعنا لقاء إحدى الآنسات التي قبلت الحديث معنا شرط عدم ذكر اسمها، بعد أن أقنعناها بأن حديثها معنا هو لمصلحة الجماعة، وأنهن يستطعن الرد على جميع من يحاول تشويههن.

حاولوا تشويهنا..لأن عمل الخير لم يعد موجوداً!!

بعد أكثر من عشرة مواعيد غيرتها الآنسة، تمكنّا من الذهاب للقاء الآنسة في منزلها في أحد أحياء دمشق الراقية، والذي كان أشبه بمسجد عن أنه منزل، بسبب الخشوع والصمت اللذان يسيطران عليه، و على تلك اللوحات "الدينية" الموزعة في الصالون بشكل أنيق، وكانت احد شروط لقائها هو ارتداء الحجاب و "المانطو"، كما تبينا من سؤالها الأول عند ترتيب اللقاء: "هل أنت محجبة؟".
وبعد أن اطمأنت الآنسة لنا، بدأت حديثها معنا بتعريف "القبيسيات" بأنهن مجموعة من النساء المسلمات اللواتي يحاولن تثبيت الدين في المجتمع، والعودة إلى بناء مجتمع صحيح و سليم دينياً، والعودة إلى ترسيخ الأسس الدينية، هن لسنا تنظيم ولا منظمة لا علاقة لهن بالسياسة ولا يسعين إلى أي مكاسب سياسية.
وتحدثنا الآنسة بعد ابتسامةٍ خفيفة ملؤها الوقار: "نحن القبيسيات لا نسعى لا إلى مكاسب مادية و لا دنيوية، فبعض الأخوات يدفعن من جيبهن الخاص في سبيل مساعدة الآخرين و نشر الدين الصحيح في المجتمع، نحن نعمل من أجل الآخرة، ونساعد النساء على ملئ أوقات فراغهن بما ينفع دينهن و دنياهن، فبدلاً من أن تتسلى السيدة بالنميمة، نعلمها كيف تشغل وقتها بقراءة القرآن الكريم، والاهتمام بالأمور الدينية".
وتتابع لتخبرنا أن مجموعتهن ليست سرية فهن يعطين دروسهن في المساجد، وتستطيع أي فتاة حضورها، ولكنهن يرفضن الظهور إلى العلن لأن الدين لا يسمح للنساء بالقيام بمثل هذه الأمور، لذلك رسمت هذه الهالة من الغموض حولهن، ولكنهن لا يفعلن شيء سوى تطبيق الشريعة.
وتشرح لنا أن مسألة اللباس و اختلافه، الذي يعتبر إشارة تنظيمية، ما هو إلا لباس ديني محتشم تتبدل ألوانه للدلالة على المرحلة الدينية التي وصلت لها "القبيسية"، كي تنال قدرها من الاحترام، منعاً من وقوع الخطأ من قبل الأخريات أو عدم إعطائها حقها لعدم درايتهن بقيمتها الحقيقية، وإذا تمعنا أكثر في هذا اللباس لوجدناهُ جزءاً من لباسنا الدمشقي أو السوري المحتشم ليس إلا.
وتضيف بعد ابتسامة استهزاء: "القبيسيات" لا يقدسن "شيختهن" كما هو شائع، فالمتدينات لا يقدسن غير الله، بل أنهن يعاملنها باحترامٍ شديد، نظراً لمكانتها الدينية وعلمها، وهي لا تعطي الفتاوى بل تُسأل وتجيب حسب معلوماتها، لكنها لا تحلل ولا تحرم كما يقال.
وتوضح الآنسة أن المجموعة لم تنتشر في وسط النساء الغنيات فقط، والتركيز ليس عليهن فقط، ولكن تواجدهن بكثرة بينهن ووصولهن لمراتب الشيخات الكبيرات، جاء نظراً لكون العمل كان غير معروف للعلن في فترة سابقة، لأسبابٍ أمنية، مما جعل الدعوة تتم شفهياً عن طريق المعارف و صدف أن كانت المدعوات في الفترة السابقة هن من الميسورات أو من العائلات المعروفة في دمشق، تبعاً للطبيعة الاجتماعية للنساء اللواتي قمن بالدعوة فهن دمشقيات ومن عائلات معروفة، واليوم عندما عرف الجميع أصبحت الحلقات تضم نساء و فتيات من مختلف البيئات و الجنسيات و الأعمار و الطبقات الاجتماعية و الفكرية و الثقافية.
وختمت الآنسة لقاءها معنا بقولها أن جميع ما أثير عن موضوعهن سببه ما يحاولن إصلاحه، ألا وهو دين الناس، فالناس اليوم لم يعودوا يصدقوا وجود أشخاص يقومون بفعل الخير من دون غاية أو هدف مادي و منفعة، وجميع المحاولات لتغيير هذه الفكرة لن تجدي نفعاً في زمنٍ أصبحت فيه المصالح هي المحرك الأكبر لكل ما يقوم به الإنسان.
ودعنا الآنسة وشكرناها على حسن استقبالها وتوجهنا إلى الجهات الحكومية مباشرةً لنتعرف وجهة نظرهم بالكلام الذي دافعت به "القبيسيات" عن أنفسهن.

طلب من الجهات الأمنية عدم التعرض لهن.. ومراقبتهن من بعيد!!

بعد اتصالاتٍ عديدة وافق مصدر يملك معلومات أكيدة، عن ما يطلقون عليه "ملف القبيسيات" الحديث معنا، ولكنه طلب منا عدم ذكر اسمه أو حتى الإشارة إليه في التحقيق بـ"مصدر مطلع" أو "جهة مسؤولة".
الرجل الذي بدا مريحاً جداً خلال لقائنا الأول، بدأ يشرح لنا جميع المعلومات التي يعرفها عن "القبيسيات" حيث اعتبر أنه لا يمكن تعريفهن بأنهن تنظيم لأنهن لسن كذلك، مع أنهن يملكن كافة صفات التنظيم، فهن كتلة من "التناقضات"، حسب وصفه، فهن لا يملكن مناصب إدارية أو هيكل تنظيمي مفصح عنه و واضح بشكل جلي حتى للأعضاء أنفسهم بل إنما يتبعون العادة و التقليد في تسيير شؤونهن.
هن جماعة كتومة ولكن ليست سرية، فالجماعة الكتومة هي التي تعمل بالسر عن المجتمع دون المساس بالأمن، أما الجماعة السرية هي التي تعمل بالسر عن سلطات الأمن ولها تأثير امني " تأخذ صفة حزب أو ما شابه"، كما أن عددهن غير معروف لأنهن يزددن باستمرار، بسبب العلاقات الاجتماعية، فإذا كانت الأم من القبيسيات، فمن المؤكد أنها ستدعي ابنتها وهكذا...
ويتابع المصدر كلامه ليعطينا تعريفاً دقيقاً لـ"القبيسيات"، حسب ما يراهن رجال الأمن، بأنه يمكن وصفهن بالجماعة الدينية المتصوفة غير التكفيرية، تعتمد منهج ديني معتدل، ولا تحلل أو تحرم، تهتم بالعبادات وتفسير وتطبيق شريعة الله كما وردت دون أية إضافات، سوى بعض الاجتهادات فيما يخص بعض المسائل الاجتماعية و مسائل الطهارة و التدنيس ...إلخ.
وبعد حديث مطول أعطانا خلاله الرجل معلومات كثيرة، كنا قد حصلنا عليها من "القبيسيات" أنفسهن، وبعد لقاءاتٍ متكررة، أطلعنا على أنه رغم أن الدروس الدينية في المنازل ممنوعة، إلا أن أغلبية دروسهن تتم في منزل إحدى الداعيات أو الآنسات، وأنهن يقمن بتغطية هذه الدروس بالمناسبات الاجتماعية مما يجعل الأمن عاجزاً عن إيقافهن أو منعهن، فالأمن لا يستطيع منع أي سيدة أو آنسة من دعوة صديقاتها إلى منزلها لقراءة القرآن أو حتى إلى "مولد" بمناسبة نجاح أو فرح أو غيرها، كما أن استقطابهن لأغلب نساء المسؤولين و السياسيين و المتنفذين جعلهن محمياتٍ من المساءلة بشكلٍ شبه كامل.
و قال المصدر بأنه علم من مصادر موثوقة أنه عندما استدعيت إحداهن للتحقيق، اتصل أحد المسؤولين المهمين جداً جداً، وأمر بالإفراج عنها فوراً، دون استكمال التحقيق، وبعدها تم أمر الجهات الأمنية بعدم اعتقال أي منهن أو التحقيق معها، و الاكتفاء بمراقبتهن من بعيد.
ويتابع الرجل حديثه ليكشف لنا عن جانبٍ آخر من "غموض القبيسيات" إذ ليس لديهن ميزانية معروفة أو تمويل محدد و ظاهر للعيان من قبل جهة معينة، ولكن إذا أردن أي مبلغ، يستطعن جمعه خلال ثوانٍ، و بمكالمة هاتفية واحدة حتى لو وصل المبلغ إلى ملايين الليرات.
ويشرح لنا أن هذه الأموال تأتي من كون أن أغلب القبيسيات هن بنات أو زوجات أو أخوات بعض المسؤولين و المتنفذين و أصحاب الأموال و المتعلقين بصنع القرار، وهؤلاء يقدمن المساعدة لهن لأنهن يحصلن على فائدة من نوعٍ آخر، كتسهيل التعامل بينهم، والتخطيط للصفقات التجارية والأعمال، وتسهيل بعض المعاملات، من خلال استثمار هذه العلاقات الواسعة، فواجب "القبيسيات" مساعدة بعضهن، كما أنهن يدبرن زيجات بعض العضوات، لـ"تمرير" بعض المصالح بين العائلات و المسؤولين، أو يستفيدوا من تقليل "نفقات الزكاة".
ولكن الرجل يوضح لنا أن الفائدة ليست دائماً غير مشروعة، فمثلاً عندما يوزع شخص بارز هدايا على بعض القبيسيات أو يدعمهن مالياً ذلك إما ليستر نفسه اجتماعياً أو لكي يساعد الناس عن طريقهن...إلخ، فالمنفعة قد تكون سياسية " كدعم الانتخابات"، أو اجتماعية أو اقتصادية.
وأكد لنا أنهن لا يعملن في السياسة أو يتدخلن بها حتى في دروسهن، ولا يسعين إلى تغيير النظام أو إجراء انقلاب، كما أن لا علاقة لهن بجماعة "الإخوان المسلمين" المحظورة في سوريا، وأن أي شيء قد يورطهم في أمور المعارضة أو ضد الدولة يبتعدن عنه مباشرةً، إلا أن لديهن تأثيراً كبيراً في الحياة السياسية من خلال دعم أشخاص في الانتخابات أو المعاملات و تسهيلها، و لهم دعم كبير من قبل أشخاص مهمين جداً في الدولة.
وبعد عدة لقاءات سمعنا وجهة نظر الدولة بـ"القبيسيات" كان لابد من أن نسأل مصدرنا "إذاً لماذا هذا الاهتمام الكبير بهن؟ وما الخطر الذي يشكلنه بعد تأكدكم من اتجاهاتهن؟"
فأجابنا انه حالياً لا خطر منهن، و لكن يخاف منهن، لأنهن يشكلن بداية لتنظيم كامل بشكل "علني"، لأنهن ربما قد شكلن تنظيم أو شبه تنظيم بشكل "سري"، ثم أن "القبيسيات" اليوم تجمعهن "منيرة القبيسي" وهي تبلغ الثالثة و السبعين من العمر وتعاني أمراضاً عدة، لذا من المتوقع أن تدب الخلافات و الانشقاقات في صفوفهن بعد وفاتها، وطبعاً الخلاف سيكون حول من سيخلفها في الرئاسة أو القيادة الروحية، وسيخجلن من الإعلان عن ذلك، لذلك سيبدأ الاجتهاد الفقهي، وقد تدعي كل واحدة من الكبيرات و هن خمسة تقريباً، أن فتاوى الأخرى غير صحيحة، وربما تورث منيرة قبل وفاتها الزعامة لاحداهن و يبقى "التنظيم" كما هو، أو قد يأخذ شكلاً سياسياً و يتعاون مع قوى معارضة، ولكن لا بوادر لذلك حالياً أبداً ، لهذا هن تحت المراقبة حسب علمه، وفي حال حصل أي شيء، فسيتم القضاء عليهن مباشرةً.
وربما يبقى الخطر القائم على احتمال أن يكون لهن علاقات سرية مع جهات دينية أخرى، رغم أنه حتى اليوم لم يظهر شيء من هذا، وأن انتماء أحد أقارب القبيسية أو زوجها إلى جماعة دينية أخرى كـ"الأخوان المسلمين" مثلاً، لا يعني بالضرورة أنها تنتمي لنفس الجهة، ولا يعني أن جميعهن كذلك، لذلك لا يمكن حصر هذه المسألة.

سعينا لإخراجهن إلى العلن..ورفضن العمل بالسياسة

وعلى الرغم مما أثارته "القبيسيات" من إشارات استفهامٍ كثيرة ضمن مختلف الأوساط، إلا أنهن حصلن على اعترافٍ من قبل جميع الأطراف التي تؤيدهن أو تعارضهن، على أنهن "جماعة" دينية، لذلك كان لا بد من التطرق إلى آراء رجال الدين لمعرفة رأيهم الديني بهذه "الجماعة"، فمن المعروف أن مفتي سوريا السابق الشيخ أحمد كفتارو يعتبر بمثابة الأب الروحي لـ"منيرة القبيسي" مما جعل "القبيسيات" مقربات جداً من "جامع أبو النور" الذي كان يشرف عليه نجل المفتي السابق الدكتور صلاح الدين، ومن الطبيعي أن نجد الموقف الإيجابي للشيخ حسن كفتارو وشقيقيه محمود وصلاح الدين من "القبيسيات"، كما أن "القبيسيات" على علاقة جيدة مع "جماعة" الشيخ عبد الكريم الرفاعي التي يدير شؤون مؤسسته ولداه سارية وأسامة في منطقة كفرسوسة بدمشق، والذي تأخذ القبيسيات من مؤسسته شهادة "ختامة" حفظ القرآن، بعد أن يخضعن لفحص من قبل شيوخ المؤسسة، والذي يكون من خلف ساتر يفصل بين الشيخ و القبيسية التي تتلو القرآن ، أما الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي فيرى ان المرأة السورية تقوم بدور مميز في الدعوة الإسلامية، لم يبلغه الرجال، وان نجاح نشاط "القبيسيات" تحقق بسبب ابتعادهن عن التيارات السياسية، والمناطق والمحاور الخلافية، والتركيز على الوحدة الإسلامية، وعلى الجانب الروحي في الإسلام مع عدم إهمال الجانب العلمي.
وبالتطرق إلى الرأي الديني الحكومي فإن وزير الأوقاف السوري الدكتور زياد الدين الأيوبي أعلن في وقتٍ سابق رفضه تسمية أتباع الداعية "منيرة القبيسي" بـ"القبيسيات"، وقال أنه من غير الممكن أنهن يحاولن استقطاب نساء المسؤولين والأغنياء لتحقيق أي نفوذ أو امتداد، وتشكيل "مظلة حماية"، توفر لهن الحصول على رخص التدريس في المدارس والمساجد.
الدكتور والنائب في البرلمان محمد حبش وخلال لقائنا معه وصف "القبيسيات" بأنهن ظاهرة "صحية وطبيعية"، وأن هناك تهويلات بما أثير حولها، فهن يقمن بإعطاء دروس دين ذات توجه معتدل غير متطرف، لأنهن لسنا تكفيريات، لكنهن يملن إلى السرية، وعدم الظهور إلى العلن نظراً لطبيعتهن المحافظة.
ويقول حبش بأنه عمل جاهداً من أجل إقناع "القبيسيات" بالظهور إلى العلن، ليبعدن الأقاويل التي تثار حولهن، كما عمل على خروجهن إلى المساجد، وإعطائهن الرخص حتى يمارسن عملهن في العلن لأن السرية مكان جيد لنمو الشائعات، حتى أنه عرض عليهن العمل في السياسة والإعلام، ولكنهن رفضن، و قررن حل اجتماعاتهن إذا ما اضطررن إلى الاشتراك في المعترك السياسي، أو الظهور على الساحة الإعلامية.
ويضيف أنه لابد من وجود أحد يتكلم باسمهن، ليشرح وجهة نظرهن، حتى لا تثار الاستفهامات والأقاويل حولهن بأنهن حركة مغلقة، ولا يفضلن الاختلاط، إلا أن هذا يأتي من كونهن محافظات، وهن بحاجة لأحد كي يدافع عنهن و يوضح صورتهن للآخرين.
ويعتقد الدكتور محمد حبش و هو مدير مركز الدراسات الإسلامية أنه لم يكن هناك داعٍ لجميع ما أثير حولهن، فهن معتدلات جداً في منهجهن و لسن تكفيريات، وليس لهن أي تعاملات مع جهات سياسية معينة أو حتى تكفيرية، يميلون إلى المحافظة، ولكن ليس لديهن مشكلة في التعامل مع الأديان و الاتجاهات الأخرى، هن منظمات جداً ولكنهن لسن تنظيم، وحتى لو كن تنظيماً فإن هذا ليس خطأ أو شيء محرم، بل هو شيء يحث عليه الدين، يقمن على احترام بعضهن البعض، و الاحترام والطاعة للآنسة منيرة القبيسي، وهذا من مبدأ احترام المعلم والكبير، واجتماعاتهن في المنازل ليست اجتماعات سرية بل يمكن لأي أحد حضورها، والتي تأتي عادةً عن طريق سؤال من أحد التلميذات و يتم الجواب عليه.
ويختم حبش بتأكيده على أن "القبيسيات" صورة "إيجابية"، فهن يسعين إلى نشر الدين بشكل جيد ومعتدل، والدمج بين الطبقات الغنية والفقيرة، عن طريق إشراك الفتيات من كافة الطبقات في الدروس الخاضعة لرقابة وزارة الأوقاف، وأن مسألة بدأهن في المناطق الراقية وبين الطبقات الغنية، لأنهن بدأن نشاطهن عن طريق المدارس الخاصة، وتعرفهن على بعضهن البعض في هذه المدارس، والتي كانت فيما سبق حكراً على الطبقة الغنية.
وبعيداً عن هذه الآراء الإيجابية إلا أن البعض ما زال يرى في "القبيسيات" "الظل النسائي" لـ"لإسلام السياسي"، في حين يعتبرها آخرون بديلاً عن منظمة "الاتحاد النسائي" الرسمية، فمن جهته يرى الدكتور محمد شحرور المختص بالشؤون الإسلامية أن ظهورهن يرجع إلى احباطات الشارع السوري عام 67 من مشاريع الحداثة، وأنهن لم يقمن على ثقافة دينية عميقة جداً.
ويضيف شحرور إلى أنه بعد العام سبعة وستين أخذت "القبيسيات" مجدهن، و حصل "شهر عسل" بينهن وبين السلطة، واصفاً "منيرة القبيسي" بأنها امرأة ذكية ولكن ثقافتها الدينية عادية جداً، ومعرفاً "القبيسيات" على أنهن "بعد" يقوم على جمع النساء جمعاً "براغماتياً" ذريعته الدين "الشعائري المتخلف".

وبغض النظر عن هذه الآراء أو تلك فإن ما يمكن تسميته بـ"ظاهرة القبيسيات"، لم تكن نشأتها اعتباطاً، أو بالصدفة، بل أن نشأتها كان تعبيراً عن الطبيعة البشرية، وحاجاتها الفطرية، لا نقصد الحاجة إلى الدين، بل إلى الانتماء، الذي غاب عن حياة السوريين في ظل غياب الحياة السياسية للدولة "العلمانية"، وحين يغيب "المجتمع السياسي" في الدولة التي من المفترض ان تتصف بالحراك، فإن المجتمع سيسعى للتعبير عن نفسه بصيغ أخرى، تعبر و ترسخ التناقضات بين هوية تلك الدولة العلمانية وواقع مجتمعها الديني.



راما الجرمقاني