Friday, October 23, 2009

شطارة العرض تحدد سعره و جماله

"البنطال" الشعبي حين يصل إلى "جمهور" آخر في أسواق أخرى يصبح "نخبويا" يشبه زبونه

لا يستطيع زائر حي باب توما بدمشق حين ينتقل مشيا إلى حي الغساني مروراً ببرج الروس و القصاع و الفرنسي أن يفلت من إغراء واجهات العرض الممتدة على طول الطريق بألوانها المتنوعة و طريقة عرضها المنسقة التي قلما تتشابه بين محل و آخر .
الذي يمر قد لا ينتبه إلى ارتفاع سعر الألبسة و تحديدا "البنطال" المعروض مع كل عدة أمتار يقطعها زائر المكان باتجاه" الغساني" التي تتجاوز في بعض الأحيان محاله القفز من مئات الليرات إلى آلاف الليرات لناحية البيع محققاً رقماً قياسياً يضاف إلى الأرقام القياسية التي سجلتها غرائب المجتمع السوري و تناقضاته فيما تعلق بالملبوسات من بنطال أو غيره .
و لكن ما السر الذي يجعل سعر البنطلون الجينز النسائي يتغير من منطقة إلى أخرى ؟ما الذي يدفع بالمستهلك لدفع ضعف ثمن البنطلون في بعض الأحيان مع أنه يمكن الحصول عليه نفسه بسعر أرخص في منطقة أخرى ؟ما الفرق الموجود بين بنطلون الشعلان و بنطلون الدويلعة ؟ و هل هناك أعباء يتحملها أصحاب المحلات في المناطق" الراقية" تختلف عن محلات المناطق" الشعبية"؟ كل هذه الأسئلة حاولنا رصد إجاباتها في هذا التحقيق؟
الزبون هو صاحب القرار
في محله الصغير في باب توما استقبلنا الشاب "أمير" ليطلعنا على سر اختلاف السعر قائلاً :" منطقتنا تعتبر منطقة شعبية و فيها متسوقين من كافة المناطق لذلك يجب أن تلبي متطلبات و أذواق كل الناس مع مراعاة دخلهم المادي ،وكثيراً ما تتشابه بضائعنا لذلك تكون الزبونة هي من يحدد السعر من خلال عملية المفاصلة".و تابع أمير إن من يشتري من عندنا هم ذوي الدخل المحدود لذلك يلجؤون إلى عدم التقيد بالسعر الموجود على البطاقة و يقومون بتحديد السعر الذي يناسبهم و يلحون حتى نوافق عليه و نرضى بربح قليل يقترب من رأس المال مضيفاً إلى أن الزبائن في المناطق"الراقية" لا يساومون بل يدفعون مباشرةً حتى لو طلب منهم دفع الضعف و هذا هو الفرق و هذه هي الحقيقة.وأشار صاحب المحل إلى أنه يمكن أن يقول البعض أن جميع المحلات تدفع ضرائب واحدة و رسوم واحدة في كافة المناطق و أنا أقول ليس هذا هو سبب الاختلاف بل إنما حجم الطلب وكمية العرض، لافتاً إلى أن متوسط سعر البنطلون الجينز النسائي/900/ ليرة سورية في باب توما.
في مكان قريب جداً من محل أمير يقع محل "ساري" الذي اشتكى أيضاً من المفاصلة و المساومة أثناء الشراء و التي ترهق الزبون و البائع و تساءل عن سبب عدم تحديد سعر الملابس من قبل التموين فذلك يخفف كثيراً من معاناة البائعين اليومية و قال:"كثيراً ما نضطر إلى الاكتفاء بربح قليل جداً ،وربما هذا لا يؤثر علينا كثيراً و لو كان حجم الطلب أكبر و لكننا يجب أن نراعي ظروف الناس و مستوى دخلهم لأن محلاتنا موجودة في منطقة شعبية " .و أخبرنا ساري أن البائعين في المنطقة قد عانوا كثيراً بعدما أصدرت وزارة التموين قراراً بمنع بيع القطع الأجنبية إلا بترخيص مما يجعل سعر القطعة الأجنبية يرتفع إلى الضعف إذا لم يكن أكثر و هذا يعيق عملية بيعها لأن الزبون لن يتقبل سعرها الذي لا يتناسب مع ميزانيتهم و دخولهم .كل مكان له زبائنه ..و الغالي سعره فيه
بعد عدة أمتار و تحديداً في منطقة حي الفرنسي وصلنا إلى محل "وليد" الذي أكد لنا ما قاله زميلاه حول أن الزبون هو من يحدد السعر، و قال:"لو رضيت أن أبيع بسعر باب توما فلن توفي معي !!".و اخبرنا وليد قائلا :"صحيح أن سعر البنطلون يختلف من منطقة إلى منطقة و أن الزبونة تستطيع شراء نفس البنطلون بنصف سعره تقريباً من جرمانا أو الدويلعة و أن كثير من زبوناته قد عاتبوه بهذه المسألة و لكنهم عادوا ليشتروا من عنده لأنهم من المنطقة و تعودوا على بضاعته حسب ما أخبرنا ،مشيراً إلى أن متوسط سعر البنطلون في المنطقة هو /1500/ ليرة و هناك بنطلونات بـ/3000/و بـ/4000/.".
وشرح لنا وليد كيف أن سعر المحل يختلف و أجرة استثماره شهرياً، و أن كل ذلك يلعب دوراً كبيراً في تحديد الأسعار، فثمن المحل في منطقة الفرنسي يبلغ /25/ مليون ليرة سورية و أجرة تضمينه لمستثمر تقدر بـ/100/ ألف ليرة شهرياً لذلك لن يستطيع البائع في الفرنسي تحصيل مصاريفه و تعويض النفقات إذا باع بسعر جرمانا التي يبلغ سعر أحسن محل بأفضل موقع فيها حوالي /3- 4/ ملايين و استثماره الشهري /10/ آلاف ليرة سورية .و أضاف أن البائع في المناطق" الشعبية" يكتفي بربح /100-200/ ليرة في البنطال الواحد أما في المناطق "الراقية"فيحتاج البائع إلى ربح /300-400/ ليرة حتى يسمي ذلك ربحاً.أما محمد الذي يملك محلاً في منطقة الشعلان فقد أخبرنا عن مسألة الاستيراد في الملبوسات و التي قد يرغب بها بعض زبائنه و لكن المشكلة التي تواجهه هو قيام بعض المحلات في بعض المناطق بالاستيراد غير النظامي، فيصبح سعر البنطلون النسائي عندهم /1000/ ليرة برأسماله لأنهم لا يدفعون أجور شحن و رسوم جمارك و غيره من النفقات و هنا يتم بيعه بـ/1500/ ليرة و يكون البائع قد ربح /500/ ليرة أما في الاستيراد النظامي الذي يتعامل معه أصحاب المحلات في المنطقة فإن البنطلون النسائي الجينز يكلف /1500/ ليرة برأسماله و من المؤكد أنه سيتم بيعه بسعر أغلى من تلك المناطق لأن تكلفته كانت أغلى .و أشار محمد إلى أن المحلات في هذه المناطق تقوم بعرض موديلات مبتكرة و جديدة مما يجعل ثمنها أغلى لندرتها أما في الأسواق " الشعبية" الموديلات المكررة تجعل ثمن القطعة يبخس لأنها"تنطرش" في الأسواق و نرى جميع الناس يريد قطعة مميزة عليه أن يدفع أكثر " و الغالي سعره فيه".و لكن محمد قد أكد على أن الأسعار في جميع الأسواق حتى "الشعبية" منها لا تتناسب مع رواتب الناس و لكن لكل مكان زبونه.
و إذا كانت الأسعار في الأسواق لا تناسب الدخل لدى العائلات التي تقصد شراء البنطال، فثمة باعة لهم وجهات نظر أخرى و كشفوا أنه كثيرا ما يكون مصدر البنطال واحد، أي يجلب من معمل واحد على سبيل المثال من حلب أو دمشق و لكنه يباع بسعر مرتفع في أسواق راقية و بسعر رخيص في أسواق شعبية على أطراف دمشق.
تلك الفكرة يكشف عنها "خالد" و هو صاحب أحد المحال لبيع الألبسة النسائية في حي الحجر الأسود يقول:" في سنوات مضت كان عندي محلا لبيع الملابس النسائية في الحجر الأسود، و كنت أبيع البنطال النسائي بنحو 300 ليرة أو 400 ليرة سورية، و ثمة شابات كن يشترين من عندي، و بعد ذلك استثمرت محلا في شارع الحمراء بالطبع قبل أن أعود منذ أشهر إلى الحجر الأسود ،و أقسم أني كنت أبيع ذات البضاعة، و لكن السعر أختلف و كنت أبيع ذات البنطال بـ800 أو 1000 ليرة، و أحيانا لزبائني الذين كانوا يشترون من عندي في الحجر،و لكن عقدتهم و حبهم للحديث عن أنفسهم حين يسألون من أي مكان اشتريت البنطال..يقولون ..هذا من الحمرا..بالتأكيد غير بنطال الحجر الأسود حسب ما يتحدثون هم!! ، و أنتم تعرفون أنه ذات البنطال" .
على الأقل اسمها ماركة
"أشرف" يملك ترخيص لشركة ألبسة عالمية قال لنا :" الإقبال واحد و من جميع الفئات و الطبقات و لكن يبقى لدينا بعض الزبائن الدائمين و هناك من يتردد علينا بالمواسم".و يتابع أشرف حديثه معنا ليخبرنا أن هناك كثير من الناس الذين يفضلون الماركات و خاصة الشباب و الذين يعتبرون لبس الماركات تباهياً ، يشير أشرف إلى أن الناس أصبحت أكثر إقبالاً على الشراء من الماركات في ظل الغلاء الغير طبيعي في الأسعار و معظم الناس يقولون بما أنهم سيدفعون مبالغ مرقومة ثمناً لبنطلون واحد فلا ضرر أن يكون هذا البنطلون يحمل علامة ماركة مشهورة و السعر تقريباً واحد.و تقول إحدى الفتيات التي تعمل عند اشرف في المحل:"أرتاح أكثر في العمل هنا فالسعر الموجود على البنطلون هو الذي سيتم دفعه دون مفاصلة و مكاسرة من الزبونات مما يريحنا قليلاً" و تضيف لقد عملت في السابق في محل لبيع الألبسة في مخيم اليرموك و لقد كنا نضطر أحياناً إلى أن نبيع براس المال حتى نتخلص من الزبونات اللحوحات و اللواتي كن يدفعن بنا إلى التنازل عن أكثر من /500/ ليرة في السعر لذلك كنا دائماً نزيد في السعر حتى نضمن ربحنا القليل و الذي لا يقدره الناس مقارنةً مع الربح في مناطق أخرى.و أخبرتنا أن كثير من الزبونات في المحل الذي تعمل به حالياًً يقولون أنهن لن يدفعن ثمن بنطلون جينز عادي /2500/ ليرة سورية و لكن عندهم في المحل يدفعون ذلك المبلغ و يقولون:" على الأقل اسمها ماركة".التموين يهتم بالمواصفات و يغفل السعر
"أحمد" صاحب إحدى ورشات الخياطة لتصنيع البنطلون قال:"يتحكم العرض و الطلب بعملية بيع البنطلون و تسعيره ، و بشكل عام إذا ما كان المعمل كبيراً و إنتاجه كبير يرفع السعر أما إذا كان المعمل صغيراً يمكن أن يخفض السعر مع أن القماش ذاته و ربما الموديل ذاته و السوية ذاتها في الصناعة"و أضاف أن المعمل الكبير هو الذي يتحكم بالسعر أما المعمل الصغير فيتحكم صاحب الربح به ، و كشف لنا احمد إلى انه يتم في بعض الأحيان تغيير كرت السعر إذا ما عرفت الجهة التي سيتم بيع السلعة فيها أي إذا كانت ستباع في سوق شعبي أو راقي و التموين لا يتدخل بهذه العملية لأن مهمته هي مراقبة النوعية و مطابقة مواصفات البنطلون لما هو مكتوب على الكرت دون النظر إلى السعر و من هنا يأتي التلاعب.
بكل الأحول يختلف البنطال من نواح عدة منها جودة الصناعة و القماش و اختلافه و هذه نقطة مهمة، و لكن المجتمع في كثير من الأحيان يعكس على شرائه بشكل أو بآخر "ثقافته" حين يقع الكثيرون في فخ التاجر، بأن "بنطال" الحي الشعبي غيره ذلك الذي يباع في حي أو سوق راق، مع الإصرار على عدم اكتشاف لعبة البيع، و خاصة إذا كان المعمل ذاته الذي يصنعه، و لكن أثناء التوزيع يحدد السعر حسب رأي بعض الباعة،و السؤال لا بد منه هنا هل "البنطال" حين يصل إلى "جمهور" صاحب دخل محدود يصبح "شعبيا" و في أسواق أخرى يصبح "نخبويا" يشبه زبونه؟
راما الجرمقاني

No comments:

Post a Comment